لم تفاجئ تعرفات دونالد ترامب الجمركية الأخيرة، دول العالم مجتمعة فحسب، بل يبدو أنّ المنظرين الأميركيين والمحللين الاقتصاديين أنفسهم، ومن بينهم أولئك الذين كانوا يؤيدون، يوماً، سياسة التعرفات، لا يزالون يحاولون «تلقف» خطوة ترامب، ويفشلون، حتى الآن، في «فهم» الأساسات التي ترتكز عليها، في حال كانت هذه الأخيرة موجودة فعلاً. وبحسب تقرير أوردته مجلة «فورين أفيرز» الأميركية، فإنّ «عصر التجارة الدولية الحرة»، والتي كانت تتوسع بشكل مستمر بمساعدة من واشنطن، قد وصل، في الثاني من نيسان الجاري، إلى نهايته المفاجئة، بعدما جسد «نطاق» التعرفات وحجمها «مخاوف كل الدول حول العالم».
وبدلاً من إجراء «إصلاحات» في القواعد التجارية التي يعتبرها ترامب «غير عادلة»، اختار الأخير «تفجير النظام بأكمله»، من دون إعفاء الحلفاء حتى من تداعيات ذلك، أو أخذ «العلاقات الاقتصادية الطويلة الأمد والمنفعة المتبادلة والتحالفات الجيوسياسية» في الحسبان. وإذ يأمل كثيرون، طبقاً للمجلة الأميركية، في أن تزول التعرفات التي فرضها ترامب «سريعاً»، على خلفية تراجع الأسهم وارتفاع الأسعار، إلا أنّ «العصر» المشار إليه من غير المرجح «أن يعود»، بل ما سيطبع الحقبة القادمة، طبقاً للرأي المتقدم، هو نظام اقتصادي «ناشئ»، قائم على الحمائية والتوترات والصفقات، لن يؤدي إلى خلق «مزيد من الوظائف»، وفقاً لما تعهد به ترامب، بل المزيد «من الاضطرابات» لدى الجميع، ولسنوات قادمة.
واللافت، أنّه في حين اعتبر الرئيس الأميركي أنّ كل دولة تمتلك فائضاً تجارياً مع بلاده، تمتهن «الغشّ»، من مثل كوريا الجنوبية مثلاً، التي تفرض ما يقارب الـ50% من التعرفات على الصادرات الأميركية، ما دفعه إلى فرض تعرفة بنسبة 26% على وارداتها إلى الولايات المتحدة، فإنّ إجراءاته طاولت، وإن بصورة أخف، دولاً من مثل أستراليا وكندا، من دون أي سبب واضح، رغم أنّ واشنطن هي من تمتلك «فائضاً تجارياً» معها.
وفي الإطار نفسه، رأت مجلة «فورين بوليسي»، في تقرير، أنّه عندما يتم الحديث عن ترامب، منذ اليوم فصاعداً، يجب التمنع عن وصفه بـ«المحافظ»، بل بـ«الثوري» الذي يمزق النظام القديم، ويراقب، من موقعه المريح حيث الثروة والسلطة، كيف «ستستقر قطعه على الأرض»، مشيرةً إلى أنّ السؤال المطروح حالياً هو ما إذا كانت بقية البلاد، بما في ذلك الكونغرس والمحاكم والشعب الأميركي، سيتبعونه «إلى الهاوية».
وفي سياق ردود الفعل التي أثارتها خطوات ترامب، نقلت «فورين بوليسي» عن الخبير الاقتصادي الحائز جائزة نوبل، جوزيف ستيغليتز، الذي دعم لمدة طويلة التجارة القائمة على فرض الرسوم الجمركية، قوله إنّ ما يقدم عليه ترامب «ليس سياسة، بل غباء فعلي». وطبقاً للمجلة، يوحي نهج ترامب بأنّ وجهة نظره «المركنتيلية» التي تعود إلى «ما قبل آدم سميث»، والتي تبناها خلال ولايته الأولى لم تتغير، وبأنّ ساكن البيت الأبيض لم يطّلع على آخر «250 عاماً من النظرية الاقتصادية»، والتي تؤكد «أن التجارة ليست لعبة محصلتها صفرية».
وبصورة أعم، يستلهم ترامب، على ما يبدو، من «ماضٍ لن يعود»، وتحديداً الحقبة التي برز فيها «بطله في تسعينيات القرن التاسع عشر»، الرئيس ويليام ماكينلي، الذي وصف نفسه، على غرار ترامب، بـ«رجل التعرفة الجمركية»، فيما يجادل مراقبون بأنّ تلك الحقبة لم تكن تتضمن «أقوى قطاع تصنيع في الولايات المتحدة»، أي التكنولوجيا، كما لم يكن أحد، خلالها، «يعرف حتى ما هي (الخدمات)».
وفي السياق، يردف ستيغليتز: «هذا محير للعقل بالنسبة إلى الاقتصاديين»، «إنه أمر سخيف تماماً، لا سيما أنه يمنع الخدمات في اقتصاد القرن الحادي والعشرين، في وقت تمثل فيه خدمات من مثل الاتصالات والتعليم والتمويل 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، فيما يشكل التصنيع 10 في المئة فقط». ولم يكن آدم هيرش، من «معهد السياسة الاقتصادية التقدمي»، والذي دعم أيضاً استخدام التعرفات كأداة تجارية منذ مدة طويلة، «أقل قسوة» في توصيفه؛ إذ رأى أنّ «التاريخ سيسجل أنّ ما يحصل هو أسوأ خطأ في السياسة الاقتصادية يرتكبه رئيس دولة إطلاقاً»، واصفاً ترامب بـ«الطائش والمتهور إلى درجة تحيّر العقل».
وكانت لـ«الطريقة الحسابية» التي اعتمدها البيت الأبيض في فرض تعرفاته، حصتها من «الهجوم» في أوساط المراقبين، الذين وصفوها بالعملية المستوحاة «من رياضيات الروضة»، بعدما عمدت واشنطن، بكل بساطة، إلى تقسيم العجز التجاري للولايات المتحدة مع دولة ما على كمية البضائع التي تصدرها الأخيرة إلى الولايات المتحدة، مع استبعاد تجارة الخدمات، مثل السياحة والتعليم وخدمات الأعمال، والتي تدير فيها واشنطن فائضاً مع معظم شركائها التجاريين. ولإنهاء العملية الحسابية، منح ترامب بـ«سخاء» كل دولة «خصماً بنسبة 50 في المئة»، فارضاً رسوماً جمركية تعادل نصف المحصلة.
الفاعلية
وفي ما يتعلق بـ«النتائج» المحتملة، تفيد التقارير التي نشرت عقب إجراءات ترامب الأحدث، بأنّ بعض أكبر الخاسرين ستكون البلدان التي استفادت «من الجهود المبذولة خلال إدارتي ترامب الأولى وجو بايدن لإجبار سلاسل التوريد على الخروج من الصين»، من مثل تايلاند وفيتنام وكمبوديا، والتي وصلت التعرفات المفروضة على بعضها إلى 49%، أي أقل بقليل من الصين. وعلى الضفة نفسها، فإنّ الشركات الأميركية التي تعتمد على سلاسل التوريد المتطورة ستتضرر بطرق متعددة. فعلى سبيل المثال، عمدت شركة «آبل» وشركات التكنولوجيا الفائقة الأخرى إلى تنويع هذه السلاسل، والانتقال إلى فيتنام ودول جنوب شرق آسيا الأخرى لتجنب الرسوم الجمركية على الصين، قبل أن تطاول تعرفات ترامب، الدول المشار إليها بشكل كبير أخيراً.
كذلك، يرى البعض أنّ الرسوم الجمركية لا يمكن أن تشكل أداة بحد ذاتها لإنهاء العجز التجاري الإجمالي للولايات المتحدة، نظراً إلى أنّ الأخير يعكس، في الواقع، الفجوة بين المدخرات المحلية والاستثمار؛ وفيما يظل هذا البلد مكاناً جيداً للاستثمار، إلا أنّ معدل الادخار الخاص به منخفض، فيما تعاني الحكومة من عجز كبير في الميزانية. أمّا في ما يتعلق بهدف «إحياء التصنيع»، فإنّه يبقى «محض تخمين»، ويتطلب وقتاً طويلاً، بينما ستفوق تكاليفه الفوائد الناجمة عنه.
وفور بدء الشركات المصنعة الصغيرة والكبيرة وتجار التجزئة والمطاعم وتجار السيارات والمزارعين وغيرهم من الذين ستبتلع التعرفات الجديدة «أرباحهم»، بالتذمر قريباً، قد تجبر الرغبة في «البقاء السياسي» عدداً من الجمهوريين على اتخاذ موقف ضدّ ترامب، لا سيما أنّ أصوات «مجلس النواب الخاص» في فلوريدا، وتصويت «المحكمة العليا» في ولاية ويسكونسن، الثلاثاء، أظهرت أنّ دعم الناخبين للجمهوريين قد «انهار» منذ وصول ترامب إلى السلطة.
وفي تقرير منفصل، تستذكر مجلة «فورين بوليسي» موجة العقوبات التي فرضتها، طوال الثمانينيات والتسعينيات، الإدارات الجمهورية والديموقراطية المتعاقبة على اليابان، والتي أجبرت الأخيرة على رفع قيمة الين، في إستراتيجية أصبحت تعرف باسم «gaiatsu»، ساعدت في إعادة هيكلة الاقتصاد الياباني، ودفعت الشركات اليابانية العملاقة، على مدى سنوات عدة، إلى التخلي جزئياً عما أصبح اقتصاداً بطيئاً في النمو، والبدء في نقل كميات هائلة من التصنيع إلى الولايات المتحدة.
على أنّه طبقاً للمصدر نفسه، فنحن لا نعيش اليوم في عالم تسعينيات القرن التاسع عشر؛ إذ فيما أجبرت الضمانات الأمنية خلال الحرب الباردة، اليابان، على عدم الرد، فإنّ حلفاء الولايات المتحدة من أوروبا إلى كوريا الجنوبية، سينتقمون، هذه المرة، جميعهم، فيما يمكن أن تصل التعرفات إلى المستويات نفسها التي ساعدت في تفاقم «الكساد الكبير». كما من غير المستغرب أن تعمد بعض الحكومات والشركات، بدلاً من الانصياع لترامب، إلى «البحث عن بدائل».
ومن جهته، يلفت المحلل والكاتب، توماس فريدمان، في مقال رأي نشرته «نيويورك تايمز»، إلى أنّ «مشكلتي هي مع تفكير ترامب السحري بأنك في حال بنيت فوراً جداراً حمائياً حول الصناعة أو الاقتصاد الأميركي بأكمله»، فإنّ المصانع الأميركية، وفي وقت قصير، ستزدهر، وتصنّع المنتجات نفسها بالتكلفة عينها ومن دون أي عبء على المستهلكين الأميركيين، مضيفاً أنّ حتى المبتدئين يدركون أنّ تلك النظرية لا تأخذ في الحسبان «أنظمة التصنيع العملاقة والمعقدة حول العالم»، وأنّ ما ينطبق على «صناعة الصلب، لا يمكن أن ينفّذ على صناعة السيارات مثلاً».
ويردف فريدمان، أنه عقب زيارته إلى الصين، أدرك أنّ 550 مدينة صينية متصلة بالسكك الحديد العالية السرعة، والتي تجعل سكك القطار الأميركية أشبه بخدمة الـ«بوني إكسبرس» البريدية، والتي كانت تعتمد على الخيول، محذراً من أنّه «في حال لم نبنِ مثل ذلك النموذج الصيني» في الداخل الأميركي خلف «جدار التعرفات»، فإنّ ما سنواجهه هو «التضخم والركود فقط»، لا سيما أنّه في عصر الذكاء الاصطناعي، لا يمكن للرسوم الجمركية أن «تشق طريق الازدهار».