تنتظر القائم بأعمال حاكم مصرف لبنان المركزي الذي تم تعيينه خلفا لرياض سلامة تركة ثقيلة لدرجة أن الخبراء يعتقدون أنه في مهمة شبه مستحيلة لتصحيح الاختلالات المزمنة في ظل شلل كافة محركات النمو والتي تسببت في انهيار العملة المحلية.
وسيتسلّم النائب الأول وسيم منصوري مسؤوليات الحاكم بالوكالة، في انتظار أن تجد القوى السياسية حلا في بلد يقوم نظامه على المحاصصة الطائفية والسياسية رغم أن البلاد تمر بأسوأ أزمة مالية منذ أربع سنوات.
وعادة ما يتمتع محافظو البنوك المركزية المستقلة بأهمية كبيرة، لكن في بلد عانى من جولات متقطعة من العنف والصراع السياسي التي شلّت الدولة في بعض الأحيان، يكون هذا المنصب أكثر أهمية.
ويتطلب تعيين موظفين من الدرجة الأولى في لبنان توافقا سياسيا يبدو من الصعب توافره في الوقت الراهن على وقع الانقسامات الحادة التي تحول دون انتخاب رئيس للجمهورية منذ تسعة أشهر.
وكان منصوري هدّد بالاستقالة قبل أسابيع للضغط لتعيين خلف لسلامة، لكنه تراجع بعد حصوله على ضمانات سياسية بإقرار خطة توقف تدريجياً تمويل الدولة وتتضمن قوانين إصلاحية ولا تتيح الإنفاق الزائد من الاحتياطي الإلزامي الذي نضب خلال الأزمة.
ويشهد لبنان منذ 2019 انهيارا اقتصاديا بدأ مع امتناع الحكومة عن دفع ديونها المستحقة إلى البنوك، ما ساهم، بالإضافة إلى عوامل أخرى، في شحّ السيولة وفرض القطاع المصرفي قيودا مشدّدة على المودعين، وصولا إلى فقدان الليرة 98 في المئة من قيمتها.
وقضت الأزمة على أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، الأمر الذي جعل الأوساط الشعبية تتذمر بشكل أكبر من السياسيين وتنبذ الذين جعلوا الناس يفقدون وظائفهم ويتحملون أعباء اقتصاد مدولر على نطاق واسع.
وحث منصوري الذي تولى منصبه السابق في يونيو 2020 الحكومة على إجراء إصلاحات طال انتظارها خلال مؤتمر صحفي الاثنين للإعلان عن توليه مهامه بداية من الثلاثاء ليحل محل سلامة الذي ظل في المنصب لثلاثة عقود.
وقال “نحن أمام مفترق طرق، إما الاستمرار في نهج السياسات السابقة وقد عايشنا النتائج وإمكانيات البنك المركزي محدودة”، وإما “الانتقال إلى سياسة أخرى وهي وقف تمويل الدولة بالكامل”.
ورغم الانهيار المالي، يواصل المركزي، الذي تبلغ احتياطاته قرابة 10 مليارات دولار بعدما كانت عند 36 مليار دولار قبل الأزمة ولديه مخزون من الذهب حجمه 286.8 طن بقيمة 15 مليار دولار، فتح اعتمادات للحكومة لتدفع مصاريفها من رواتب وشراء مواد أساسية.
واعتبر منصوري أن وقف تمويل الدولة يجب أن يتم تدريجياً “خلال فترة انتقالية”، مشيرا إلى أن أي تمويل مؤقت للدولة، الذي يتضمن رواتب الموظفين وأدوية الأمراض المستعصية، يجب أن يكون مشروطاً بضرورة إعادة الحكومة للأموال من خلال تحسين الجباية.
وأكد أنه “لا يمكن تغيير الوضع الحالي من دون إقرار خطة متكاملة” متفّق عليها مع الحكومة والبرلمان. كما شدّد على ضرورة إقرار قوانين تشريعية بينها الموازنة العامة والكابيتال كونترول وهيكلة المصارف.
وتعدّ هذه القوانين جزءاً من إصلاحات يطلبها صندوق النقد الدولي لإقرار خطة مساعدات للبنان. وقال منصوري “لمن يقول إن هذا المطلب صعب المنال.. أقول إنها فرصة البلد النهائية”. وتعهد “بالشفافية الكاملة” إلى حين تعيين بديل.
وبحسب قانون النقد والتسليف، يُعيّن الحاكم لولاية من ست سنوات، بموجب مرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المالية. ويتعيّن على الحاكم الجديد أن يؤدي القسم أمام رئيس الجمهورية، المنصب الشاغر في البلاد.
وكان سلامة مهندس السياسات المالية في مرحلة تعافي الاقتصاد ما بعد الحرب الأهلية لكن على وقع الانهيار الاقتصادي، بات يُحمّل مع أركان الطبقة الحاكمة مسؤولية الفشل في إدارة أزمات البلاد المتلاحقة.
ومنذ بدء الأزمة الاقتصادية التي صنّفها البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم، باتت غالبية السكان تحت خط الفقر.
وتحمّل جهات سياسية ومحللون ومواطنون في لبنان سلامة الذي كان يعدّ عراب استقرار الليرة، مسؤولية انهيار العملة، وينتقدون بشكل حاد السياسات النقدية التي اعتمدها، باعتبار أنها راكمت الديون وأوصلت البلاد إلى ما هي عليه.
وكان لبنان مديناً بنحو 100 مليار دولار في نهاية عام 2022 بما في ذلك السندات المتعثرة بالعملات الأجنبية ويديره سياسيون فشلوا في الاتفاق في ما بينهم، حتى على ملامح خطة للتعافي.
ووقعت بيروت اتفاقا أوليا بشأن خطة إنقاذ بقيمة 3 مليارات دولار مع صندوق النقد الدولي في العام الماضي، لكن يتعين عليها تنفيذ إصلاحات كجزء من الصفقة، وهو ما لم يحدث بعد.
وطلب الصندوق إجراء تدقيق في حسابات المركزي وغيره من المقرضين لتقييم الخسائر غير المعلنة والبدء في هيكلة القطاع المالي، وتوحيد سعر الصرف واعتماد قانون لمراقبة وضبط رأس المال وهذه البنود في معظمها تحتاج إلى موافقة البرلمان عليها.
ويعتقد بعض المنتقدين أن لبنان على وشك أن يصبح دولة فاشلة. وقال المحلل اللبناني نسيم نيكولاس طالب لوكالة بلومبرغ “ما نحتاجه هو المزيد من الشفافية، والمزيد من المساءلة وإلا، فلن يُحدث اختيار خليفة لسلامة أي فرق”.
وفي إشارة منه إلى كيفية تأقلم الشركات مع الوضع من دون وجود واردات في بلد تبخرت فيه احتياطاته، يرى طالب الأستاذ في هندسة المخاطر في جامعة نيويورك أن الوضع هو الذي يحدد السياسات، وهو يتسم بحجم محدود جداً من العملة الصعبة.
وفي تقرير أصدره العام الماضي، وصف البنك الدولي الأزمة المالية في لبنان بأنها “كساد متعمّد من تنظيم النخبة التي سيطرت على الدولة منذ فترة طويلة واستفادت من مواردها الاقتصادية”.
واعتمد لبنان على تدفقات الدولار الأميركي في المقام الأول من المغتربين للمحافظة على تثبيت العملة وتمويل العجز الضخم في الحساب الجاري والميزانية.
ولكن عندما بدأ نمو الودائع في الانخفاض منذ 2015 إلى جانب عدم الاستقرار في الداخل والحرب في سوريا، قدّم المركزي “عمليات الهندسة المالية”، والتي وصفها صندوق النقد مراراً بأنها “غير تقليدية”، وحث بيروت على وقف العمل بها.
وقدّمت عمليات الهندسة المالية هذه للمقرضين المحليين عوائد عالية للاستثمار في الودائع لأجل بالدولار لدى البنك المركزي، وللقيام بذلك، كان على البنوك أن تجذب تدفقات جديدة بأسعار فائدة مربحة.
وكشفت خطة إنقاذ حكومية في عام 2020 أن البنوك التجارية التي أغرتها العوائد المرتفعة جمّدت نحو 70 مليار دولار من أصولها لدى المركزي.
وحسب تقديرات صندوق النقد جذبت هذه العمليات أكثر من 24 مليار دولار من المقرضين بين عامي 2016 وفبراير 2019.