يُعيد الحساب الجاري تصحيح نفسه بنفسه، إذ انخفض من معدّل عجز بنحو 10 مليارات دولار سنوياً في العقد الماضي، إلى 1.9 مليار دولار في 2023، بحسب أرقام البنك الدولي. هذا «التصحيح» لا يأتي عبر إجراءات حكومية تُطبّق عبر السياسات العامّة، وعبر مصرف لبنان، بل هو تصحيح يحصل عشوائياً ليكون على حساب الطبقات الفقيرة والعزّل أو الأكثر انكشافاً في الاقتصاد. هذه الطبقات أصابها انخفاض هائل في القوّة الشرائية، ما دفعها إلى التخلّي عن الكثير من الأمور الأساسية. اللافت أن تراجع العجز في الحساب الجاري، لم يحصل بسبب انخفاض عجز الميزان التجاري الذي يُعدّ أكبر المساهمين فيه. فالعجز في الميزان التجاري انخفض في عام 2020 إلى 7 مليارات دولار مقارنة مع 17 مليار دولار في عام 2018، إلا أنه عاد إلى الارتفاع في 2022 ليبلغ 15.5 مليار دولار، ثم 14.5 مليار دولار في 2023. ففي سنوات الأزمة الأولى انخفض العجز في الميزان التجاري بسبب انخفاض الاستهلاك خلال جائحة كورونا، وبسبب الصدمة التي أصابت الأسر ودفعتها إلى التحفّظ على استهلاكها بسبب حالة انعدام اليقين حول المستقبل في ذلك الوقت. لكن مع مرور الزمن أصبحت الحالة التي يمرّ بها الاقتصاد اللبناني هي «الوضع الطبيعي الجديد»، وهو ما أعاد الاستهلاك إلى طبيعته ما قبل الأزمة.
هذا الأمر لا يعني، بالطبع، أن الأسر اللبنانية كلها عادت إلى نمط حياتها السابق، بل إن انخفاض القدرات الشرائية للأجور، وارتفاع معدلات البطالة، جعل الكثير من الأسر تدنو إلى ما دون خط الفقر، إذ تشير تقديرات الإسكوا «إلى أن أكثر من 55% من سكان البلد يقعون الآن في براثن الفقر». عملياً، هذا الأمر يظهر أن الأزمة الاقتصادية التي عاشها البلد في السنوات الخمس الأخيرة انعكس عبر زيادة الهوّة وانعدام المساواة بين الطبقات الاجتماعية في البلد.
كانت هذه نتيجة «التصحيح» الذي حصل من دون تدخّل الدولة. وكان يمكن تفادي هذا الأمر عبر تصحيح الحساب الجاري عبر تحفيز التصدير، وهو كان ممكناً في السنوات الأولى من الأزمة بسبب انخفاض كلفة الإنتاج في ذلك الوقت. إلا أن هذا المسار كان يحتاج إلى قرارات حاسمة منذ بداية الأزمة. وهي قرارات تتعلّق بتسوية أوضاع القطاع المصرفي، الذي كان من الممكن الحد من خسائره لو تم التعامل مع الأزمة منذ بدايتها بشكل مسؤول. كما أنها تتعلّق بسياسات مالية ونقدية تُسهم في زيادة الاستثمار في قطاعات محددة يُمكن أن تُشكّل فرصاً للتصدير وتضييق العجز في الميزان التجاري، وبالتالي في الحساب الجاري. كما كان يمكن العمل على التحكّم بالاستيراد عبر، أو ما يُعرف بالـimport control، وبالتالي خفض العجز أيضاً.
أما ما بقي الآن فهو استخدام التحويلات الآتية من الخارج لتغطية العجز في الميزان التجاري. وهو عملياً يُشبه النموذج الذي أوصلنا إلى الأزمة. حيث تأتي الأموال من المغتربين إلى البلد، وتُصرف هنا على الاستهلاك المستورد، مع فرق أن اليوم لا تلعب المصارف دور الوسيط الذي يوزّع الأموال على شكل قروض استهلاكية، بل تأتي الأموال بشكل مباشر إلى المستهلكين، لتُصرف في السوق وتُحوّل إلى الخارج من أجل الاستيراد.