يرى البنك الدولي أن رفع الدعم هو بمثابة تصحيح لميزان المدفوعات من خلال ضريبة تضخّم الأسعار التي ستزداد بنسبة %24 في حال رفع الدعم وستنعكس سلباً على حركة الاستهلاك المستورد، إذ أن رفع الدعم يؤدّي إلى خفض عجز الميزان التجاري بين 1.7 مليار دولار و3.2 مليارات دولار سنوياً. أما الترجمة الفعلية لهذا التصحيح، فهي من خلال زيادة أعباء تضخّم الأسعار فوق مستوى %136 الذي بلغته في نهاية تشرين الأول الماضي. التوصيف الاقتصادي لهذه الضريبة، أنها تنازلية، بينما التوصيف الفعلي، أنها أبشع أنواع الضرائب التي تصيب الشريحة الأدنى من المداخيل
في خضمّ الحديث الذي يشغل البلد هذه الأيام، عن وقف دعم استيراد السلع بالدولارات الحقيقية التي يحملها مصرف لبنان، أصدر البنك الدولي تقريراً يشير إلى تداعيات رفع الدعم عن الاقتصاد الكلّي انطلاقاً من دراسة مرونة السلع وقدرة المستهلك على التكيّف مع وجودها والتضخّم الذي سينتج عن قرار وقف الدعم كلياً أو جزئياً وأثره على سعر صرف الليرة.
الواضح في التقرير، أن رفع الدعم أو وقفه، سيؤدي إلى تخفيف الضغط عن ميزان المدفوعات لأنه يخفف الضغط عن الاستيراد. يعتقد البنك الدولي أنه إذا لم يتم تخفيف الضغط عن ميزان المدفوعات، سيستمر النزف في احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية ما يلغي الهدف المنشود من العملية الإصلاحية الأساسية (إصلاح نظام الدعم). ويرى أن «العامل الأساسي الذي يحدّد إذا كانت عملية رفع الدعم ذات تأثير على ميزان المدفوعات، هو مدى تأثير الطلب على السّلع المدعومة في الأسواق». بمعنى آخر، إذا بقي الطلب على السلع المدعومة، على حاله الراهنة، فإن العجز في ميزان المدفوعات سيبقى أيضاً على ما هو عليه، وبالتالي ستكون العملية قد فشلت في تحقيق هدفها الأساسي.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره
لكن لتقدير الأثر الناتج عن العملية الإصلاحية على الطلب في السوق، يلجأ البنك الدولي إلى استخدام مؤشّر مرونة الطلب (elasticity). هذا المؤشّر يكشف حساسية تحرّك قيمة متغيّر معيّن نسبة إلى التحرّك في قيمة متغيّر آخر، أي أن البنك الدولي يلجأ إلى قياس مدى حساسية التغيّر في الطلب على سلعة معينة في لبنان، نسبة إلى التغيّر في الدخل وأسعار السلع. وتظهر دراسة المرونة هذه، أن الطلب على منتجات الطاقة والقطاع الصحي يُعتبر مرناً نسبة إلى تغيّر الدخل والأسعار. فعلى سبيل المثال، إذا تقلّصت مداخيل المستهلكين بنسبة 50% أو ارتفعت أسعار هذه المنتجات بنسبة 50% سيتغيّر الطلب على هذه المنتجات بنسبة 50% أو أكثر. أما بالنسبة إلى الطلب على منتجات الأغذية فهو أقل مرونة مقابل التغيّر في الدخل والأسعار، أي في حال تقلّصت مداخيل المستهلكين بنسبة 50% أو ارتفعت أسعار السلع بنسبة 50% سيتغيّر الطلب على هذه السلع بأقل من 50%.
وقد أجرى البنك محاكاة لتأكيد استنتاجاته، بالاستناد إلى ثلاث فرضيات تتضمن جميعها تقلصاً في الدخل بنسبة 20%، وارتفاعاً في أسعار منتجات الصحة والطاقة والغذاء بنسبة 50% في أول سيناريوهين، وبنسبة 100% في السيناريو الثالث: 1- سيناريو المرونة العالية، 2- سيناريو المرونة المنخفضة، 3- سيناريو الدفق العالي.
– سيناريو المرونة العالية: يخلص هذا السينارو إلى أن الطلب على منتجات الطاقة والصحة والغذاء نسبة إلى الدخل والأسعار، يتّسم بمرونة عالية لأن المستهلك قادر على استبدال هذه السلع أو الخدمات بأخرى أقل ثمناً.
– سيناريو المرونة المنخفضة: يخلص هذا السيناريو إلى أن منتجات الطاقة والصحة والغذاء هي غير مرنة نسبةً إلى الدخل والأسعار، أي أن استبدالها أو الاستغناء عنها بالنسبة إلى المستهلك ليس خياراً سهلاً أو متاحاً.
– سيناريو الدفق العالي: ينعكس رفع الدعم على أسعار السلع بضغط أعلى.
في النتيجة، تبيّن من هذه السيناريوهات الثلاثة، أن «رفع الدعم يؤدّي إلى تخفيف الضغط عن ميزان المدفوعات بسبب الانخفاض الحادّ في الاستهلاك». وينعكس هذا الأمر تحسنّاً في ميزان المدفوعات «بقيمة تُراوح بين 1.7 مليار و3.2 مليارات دولار». وبالتالي، فإن رفع الدعم، جزئياً أو كلياً، «سيخفّف العبء عن الاحتياطات بالعملات الأجنبية الموجودة في مصرف لبنان، ويؤجّل موعد نفادها، وبالتالي يؤجّل الصدمة الإضافية التي قد تحدث في سعر صرف الليرة»، وفق البنك الدولي.
لكن الانخفاض في عجز ميزان المدفوعات سيكون على حساب المستهلك، لأن رفع الدعم أو «ترشيده» يقلّص الطلب على السلع المدعومة حالياً من خلال طريقين: ارتفاع أسعار هذه السّلع، أو انخفاض قيمة الدخل عند المستهلك، أو الاثنين معاً. فارتفاع سعر السلعة، سيدفع المستهلك إلى البحث عن سلع بديلة أقل ثمناً، أو تقليص اعتماده عليها. فعلى سبيل المثال، إن ارتفاع أسعار اللحوم، دفع المستهلكين إلى تقليص عدد الوجبات التي تدخل فيها اللحوم. وإذا ارتفع سعر منتجات الطاقة، بما فيها البنزين، فإن المستهلك سيكون مجبراً على البحث عن وسائل نقل أخرى مثل التنقّل مع الغير، أو عبر النقل العام. البحث عن وسائل أو سلع أخرى، قد يعني تراجع مستوى المعيشة وجودتها.
أما المشكلة الفعلية التي ستواجه المستهلك بعد رفع الدعم أو «تقليصه» فهي مرتبطة بتضخّم الأسعار. فبحسب البنك الدولي، إن التضخّم في الأسعار هو عبارة عن «ضريبة تنازلية» تصيب كل الشرائح بمعدلات موحّدة وتكون تداعياتها مرتبطة بشرائح المداخيل. بمعنى آخر، سيتأثر ذوو المداخيل المنخفضة، بنسبة أكبر من ذوي المداخيل المرتفعة. وهذا الأمر ينعكس مباشرة في موازنات الأسر التي ستضطر إلى تخصيص أموال أكبر من مداخيلها لتعويض الأمور الأساسية التي لم يعد بإمكانها الحصول عليها بالأسعار السابقة.
إذاً، كيف يؤدّي رفع الدعم إلى زيادة التضخّم؟ بما أن رفع الدعم أو تقليصه يعني استيراد السلع بالدولار غير المدعوم من مصرف لبنان، وبالتالي ستأتي الدولارات من السوق الموازية وفق سعر الصرف الحرّ الذي بات يُراوح بين 7500 و8500 ليرة في الشهر الأخير. وبحسب البنك الدولي، فإن الزيادة في التضخّم الناتجة من ارتفاع الأسعار بعد رفع الدعم أو تقليصه، ستكون بنحو 24 نقطة مئوية.
وهناك أثر غير مباشر لتضخّم الأسعار، على سعر صرف الدولار مقابل العملة الوطنية. البنك الدولي يكتفي بالقول إن التضخم في الأسعار سيزيد الضغط على سعر الصرف، لكن ما لم يقله البنك الدولي، إنه في ظل المرونة المنخفضة للطلب، لن يكون بإمكان المستهلكين استبدال كل السلع التي يحتاجون إليها من أجل معيشتهم اليومية بسلع مستوردة أرخص أو مصنوعة محلياً، وبالتالي فإن اضطرارهم للحصول على هذه السلع سيغذّي تضخّم الأسعار، وهذا الأخير سيغذّي التدهور في سعر الصرف.
وفي هذا المجال، يشير البنك بشكل موارب إلى هذه المسألة عبر الإشارة إلى أن «التضخّم سيزيد الطلب على النقد في التداول»، أي العملة الورقية، لأن ارتفاع الأسعار سيزيد الحاجة إلى النقد الورقي. ويضيف: «إذا لبّى مصرف لبنان هذا الطلب الزائد على النقد الورقي بطباعة المزيد من الليرات، سيؤدي ذلك إلى زيادة الضغط على سعر الصرف. وفي حالات الهلع، يكون سعر الصرف ومعدّل التضخّم مؤشّرين أساسيين للأفراد، وقد يؤدي تدهورهما إلى تأجيج دورة متتابعة من التضخّم والانخفاض في قيمة العملة».
التعويض النقدي VS التوفير في الإحتياطات
يقترح البنك الدولي برنامج تعويض على المتضرّرين من رفع الدعم بمخصّصات شهرية تمتدّ على خمس سنوات. تنخفض قيمة هذه المخصّصات بشكل تدريجي. في السنة الأولى يحصل الراشدون على 50 دولاراً شهرياً والأطفال دون 23 عاماً على 25 دولاراً، على أن تغطّي هذه المخصّصات 80% من اللبنانيين. وفي السنة الثانية يتلقّى الراشدون 40 دولاراً والأطفال 20 دولاراً بالتوازي مع نسبة التغطية لتصبح 70% من اللبنانيين. وهكذا يستمر الانخفاض في المخصّصات إلى أن يبلغ أدناه في السنة الخامسة التي يتلقّى فيها الراشدون 30 دولاراً شهرياً والأطفال 15 دولاراً وتبلغ نسبة التغطية 30% من اللبنانيين.
ويقول البنك الدولي، إن رفع الدعم يتمّ في الوقت نفسه بشكل تدريجي أيضاً وفق الآتي: في المرحلة الأولى التي تبدأ في كانون الثاني 2021 يُرفع الدعم عن المواد الغذائية والمحروقات (باستثناء شركة كهرباء لبنان)، وفي المرحلة الثانية التي تبدأ بعد سنة، يُرفع دعم استيراد المحروقات لكهرباء لبنان وتزاد التعرفة، وفي المرحلة الثالثة التي تبدأ في كانون الثاني 2023 يُرفع الدعم عن المنتجات الصحية.
أما الكلفة السنوية الإجمالية لهذا البرنامج، فهي تتدرّج من 1.5 مليار دولار في السنة الأولى وصولاً إلى 311 مليون دولار في السنة الخامسة. كما أن الوفر المحقّق من احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية مقارنة مع الوضع الحالي، يتدرّج من 1.8 مليار دولار في السنة الأولى وصولاً إلى 3 مليارات دولار في السنة الخامسة.
79%: تضخّم الأسعار الوسطي لغاية تشرين الثاني 2020
خلال الأشهر الثلاثة الأولى من السنة الجارية، لم تشهد الأسعار في لبنان تضخماً كبيراً ومتسارعاً كالذي حصل في الأشهر التالية. فمنذ نيسان ولغاية تشرين الثاني، لم يتوقف ارتفاع الأسعار الكبير، حتى إن مؤشر الأسعار الذي يصدر استناداً إلى ميزانية محدّدة للأسر، لم يعد صالحاً لقياس التضخّم من دون تصحيح أوزانه انسجاماً مع شرائح الدخل. ميزانية الأسرة تعدّلت بشكل شامل. ما كان ينفق على الأكل والشرب صار يمثّل حصّة أكبر من الدخل، فيما عدّلت الأسر أولويات إنفاقها للتكيّف مع الأزمة. المؤشّر، بصيغته الحالية، لم يعد صالحاً لقياس التضخّم.