تحوّل البحث عن الدواء إلى روتين يومي صعب لآلاف اللبنانيين نتيجة ندرته في الصيدليات، ولا سيما الأدوية المستعصية والمزمنة والسرطانية التي باتت الشغل الشاغل للمرضى. وكأنه قدّر لمريض السرطان في لبنان أن يكون الموت مصيراً محتّماً له في ظلّ عدم قدرته على تلقي العلاج كما يجب والتماثل إلى الشفاء. فأضيف الى آلامه الجسدية والنفسية، وهمّ تجميع العملة الخضراء لستديد الفاتورة الإستشفائية الباهظة، همّ آخر هو البحث عن الدواء في كومة قشّ كونه دواءً مدعوماً في دولة مفلسة غير قادرة على تأمين أبسط مقوّمات الحياة لمواطنيها.
أما الأدوية التي باتت غير مدعومة وتسمى Acute والتي لا تتطلب وصفة طبية، فإنها تخضع لقبضة التاجر أو الصيدلي الذي في حال ارتفع سعر الدولار 2000 او 3000 ليرة يتوقف عن بيعها لحين إصدار التسعيرة الجديدة من وزارة الصحّة، طامعاً في المحافظة على قيمة الربحية نفسها ولتأمين ما يسميه التاجر الـReplacement Cost الأمر الذي لا ينطبق على الواقع في حال تراجع سعر صرف الدولار. ويؤدي هذا الأمرالى عدم قدرة المواطن على ايجاد دواء يعتبر مفقوداً من السوق على أن يظهر فجأة بعد صدور التسعيرة.
هذا الواقع دفع بوزير الصحة العامة فراس الأبيض الى إصدار قرار في بداية الشهر الجاري يقضي بنشر مؤشّر الدواء الذي يحدّد السعر وفقاً لتقلبات أسعار الدولار أسبوعياً بدلاً من شهرياً، كون تسعير الأدوية من مسؤولية «الصحة» وحدها وليس المستورد والصيدلي.
ومن المفترض كنتيجة لهذا التدبير أن يتوقف الصيدلي والتاجر عن احتجاز الدواء لديه اذا ما ارتفع سعر صرف الدولار في السوق السوداء، بانتظار التسعيرة الجديدة، تماماً كما يحصل في سائر القطاعات مثل قطاع المحروقات الذي يعتمد على تسعيرة وزارة الطاقة لبيع المادة على عكس السوبرماركات.
وحول ذلك المؤشر أوضح وزير الصحة العامة في حكومة تصريف الأعمال فراس الأبيض لـ»نداء الوطن» أنه سيصدر مؤشر سعر الدواء في أول يوم عمل من كل أسبوع ويكون عادة يوم الإثنين، الا اذا كان هناك عطلة رسمية فيكون حينها يوم الثلثاء أول يوم عمل وهكذا.
وأكّد الأبيض بالنسبة الى الإعتمادات التي أقرت في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء لفترة 4 أشهر، قبل أن تدخل الحكومة في مرحلة تصريف الأعمال والبالغة 35 مليون دولار شهرياً، وتتضمن أدوية وحليباً للأطفال ومواد أولية، أن «مصرف لبنان فتح الإعتماد منذ اسبوعين وبدأت الأدوية ترد. ولكن إضافة الى أن كمية الأموال المخصصة لدعم الأدوية قليلة وتبلغ 25 مليون دولار، فإن السوق متعطشة للدواء بسبب انقطاعه لفترة، وعند وصوله تمتصه بسرعة ويستغرق بعض الوقت ليعاود مساره الطبيعي على الخط».
من هنا لا يتوقّع الأبيض أن يؤدي توفير الإعتمادات لأشهر وصدور مؤشّر الدواء أسبوعياً الى حلّ معضلة الدواء، بل الى انفراج وإراحة السوق من تقلبات سعر الدولار. من هنا برأيه هناك ضرورة للعمل على أمور عدة بالتوازي مع تلك الخطوات ليطول أمد الإنفراج.
تنشيط التشخيص المبكر
وعن تلك الأمور شدّد على «أهمية تنشيط حملات التشخيص المبكّر للأمراض من قبل وزارة الصحة لتوفير الوقاية واكتشافها منذ بدايتها، ما يخفّف من تقدّم الأمراض السرطانية وما يتبع ذلك من تكاليف علاجية وأدوية. مؤكّداً أن «عمل وزارة الصحة لا يقتصر على توفير الدواء وإنما إجراء مقاربة شاملة لملفّ الدواء والصحة، والتخفيف من فاتورة العلاج والدواء». كاشفاً عن أن «الصحّة « تعمل حالياً على خطّة وطنية شاملة لموضوع السرطان، ولكن إنجازها وتظهيرها يحتاج الى بعض الوقت أي لفترة تفوق الشهرين.
أما عن دور أعمال التهريب في زيادة الطين بلّة في شحّ الدواء والذي لا يزال نشطاً عموماً، فإنه بحسب أبيض «غير مستعرّ حالياً في قطاع الدواء لأن تلك المادة اصلاً غير موجودة ليتم تهريبها الى الخارج، بل على العكس إن التهريب يتمّ من الخارج الى الداخل». فالسوق اللبنانية كانت تحتاج تاريخياً، بالنسبة الى الأمراض السرطانية «أدوية بقيمة تتراوح بين 30 و 35 مليون دولار، اليوم قيمة الدعم بأكمله لكل الأدوية يبلغ 25 مليون دولار، علماً أننا عندما خفضنا الدعم على بعض الأدوية استقدمنا أدوية سرطانية أكثر»، كما يؤكّد أبيض.
وهنا نشير الى أن «تقسيم نسب الدعم للأدوية تغيّر قليلاً، فأدوية الأمراض المستعصية لا تزال مدعومة بنسبة 100%. أما أدوية الأمراض المزمنة فكانت مدعومة جزئياً وتختلف النسب بين 25% و45% و65% و85%، اليوم تمّ الإبقاء على الأدوية التي يصل دعمها الى 45 و 65% فقط و 100% بالنسبة الى أدوية الأمراض السرطانية.
صناعة الدواء المحلي
وفي ظلّ شحّ الأدوية المتوفرة في الأسواق، تسلّط الأضواء اليوم على صناعة الدواء المحلي الذي يحتلّ مكانة مهمة مع الظروف ويحرز تقدّماً شيئاً فشيئاً، وفي هذا السياق يقول الأبيض أن هناك 500 دواء يتمّ تصنيعها محلياً وأسعارها تنافسية وأقل من الدواء المستورد وحتى «الجينيريك». وغالبية تلك الأدوية هي للأمراض المزمنة والمستعصية، اما الأمراض السرطانية فتحتاج عملية تصنيعها الى مبالغ كبيرة من الأموال.
مستوردو الأدوية
وأثنت نقابة مستوردي الأدوية التي يرأسها كريم جبارة على إقدام وزير الصحة على الطلب من الحكومة إقرار فتح اعتمادات لفترة 4 أشهر قبل انصراف الحكومة الى مرحلة تصريف الأعمال، معتبراً خلال حديثه الى «نداء الوطن» أن «فتح الإعتمادات يحول دون حدوث فراغ دوائي جرّاء الفراغ الحكومي، علماً أن مبلغ الـ25 مليون دولار شهرياً غير كاف لتلبية احتياجات المرضى».
وأكّد جبارة بشأن الأدوية غير المدعومة أن «عددها يتزايد تدريجياً، فبعد أن كان غير المدعوم محصوراً بالأدوية التي لا تتطلب وصفة طبية يتناولها المريض لفترة وجيزة، أضيفت اليها الأدوية المصنعة محلياً، ثم أدوية «الجينيريك»، مع المحافظة على دواء مدعوم لكل العلاجات كي يبقى أمام المريض خيار بديل بسعر جيد وغير مرتفع الثمن».
ويضيف أن «المشكلة في تلك الأدوية هي ضرورة تقديم طلبيات جديدة لاستقدامها الى لبنان لأن معظم الشركات ألغتها ومنذ نحو 10 أشهر لم نستقدمها، وستستغرق بعض الوقت ثلاثة أو أربعة أشهر للوصول الى لبنان».
وفي ما يتعلق بقرار وزير الصحة بإصدار التسعيرة الأسبوعية، اعتبر جبارة أنها «تحمي الصيدلي والمستورد من تقلبات السوق السوداء التي تؤذيهما خصوصاً اذا كان هامش الإنخفاض أو الإرتفاع كبيراً بقيمة 10 آلاف ليرة كما حصل الأسبوع الماضي».
يبقى الحلّ الوحيد للخروج من تلك المعضلات والذي لا خلاف حوله، التوافق مع صندوق النقد الدولي والشروع في الإصلاحات. والأهم توحيد سعر صرف الدولار وإيجاد البيئة الملائمة لإدخال العملة الصعبة الى البلاد. عندها يتمّ وضع حدّ للمحتكرين الذين يجهزون على المريض والفقير والجائع، باعتباره الحلقة الأضعف، مهدّدين صحته وحياته.