صدر التقرير الاقتصادي الجديد لبنك «عوده» بعنوان «هل بدأ النهوض من القاع، مع احتمال انعطافة اقتصادية؟»، وجاء فيه:
على صعيد الوضع النقدي، فيما حافظت الليرة اللبنانية على استقرارٍ نسبي منذ آذار الفائت، ظل التضخّم يفوق الـ100%، مع نشوء تضخم بالدولار الأميركي تلازماً مع استقرار العملة. هذا ومن المقدّر أن يكون التضخم قد بلغ 204% في كانون الأول من العام 2023 بالمقارنة مع الشهر نفسه من العام السابق، ما يؤدي إلى تضخم تراكمي بحوالى 5000% منذ اندلاع الأزمة في تشرين الأول 2019. وكان اللافت خلال الأشهر القليلة الماضية ظهور تضخم متراكم بالدولار الأميركي بنسبة 47% في العام 2023.
أما على صعيد القطاع المصرفي، فإنّ المصارف تعتمد في الوقت الراهن ثلاث ميزانيات منفصلة: ميزانية بالليرة، وميزانية بالدولار المحلي، وميزانية بالدولار النقدي. وكان اللافت خلال الأشهر القليلة الماضية ارتفاع الودائع بالدولار النقدي والتي تقدّر بنحو 3.5 مليارات دولار اليوم مقابل 2 مليار دولار منذ عام.
التضخم والإنفاق
وبالتفصيل، يؤكد التقرير ان الليرة اللبنانية سجلت استقراراً نسبياً في العام 2023 كما تراجع التضخم نسبياً، إلاّ أن زيادة الدخل لم يتمّ استدراكها بعد، ما أدّى إلى تباطؤ حركة الإنفاق. وفي عام 2023، من المقدّر أن يكون الإنفاق الأسري الحقيقي قد ارتفع بما يقارب 1.2%، وأن يستمرّ منحاه التصاعدي عام 2024 ليصل إلى 2.0%. وبحسب تقديرات وكالة FitchSolutions، فإن هذا التطور عائد إلى انخفاض مستويات التضخم، والى التدفقات اللافتة للعاملين في الخارج، وزيادة رواتب العاملين في القطاع العام، والى الاستقرار النسبي للعملة، من بين عوامل أخرى. غير أن زيادة الدخل والإنفاق ستفيد في المقام الأول شراء السلع والخدمات الأساسية، لأنّ القوة الشرائية لا تزال ضعيفة والتوجّهات الإنفاقية مركّزة على الضرورات في أوقات الأزمة. وقد أدّى هذا الوضع إلى تباطؤ كبير في شراء العقارات من قبل المقيمين، لعدم توافر الحجم اللازم من السيولة بالدولار الطازج.
العقارات
وفي ما يتعلّق بالطلب الخارجي على العقارات في لبنان، يشير التقرير الى ازدياد ميل المغتربين والأجانب الى شراء العقارات قبل الفصل الرابع من العام 2023. ويفسَّر ذلك بأن أسعار العقارات في البلاد كانت رخيصة نسبياً بالنسبة الى أولئك الذين يعيشون في الخارج ويتمتّعون بمستويات عالية من الدخل ولديهم آفاق واعدة للقيمة المستقبلية مع استمرار استقرار اقتصاد البلاد. ولكن، مع بداية الفصل الرابع ونشوب الحرب بين إسرائيل وحركة حماس، من المقدّر أن يكون عدم الاستقرار قد انعكس سلباً على الاستثمارات في لبنان، بما في ذلك الاستثمار العقاري. يُضاف إلى ذلك أن أساسيّات لبنان الهزيلة وضعف دولة القانون والمأزق السياسي الراهن والفساد والبنية الاقتصادية الهشّة ظلّت تؤثّـر على توجّهات المستثمرين. لذا، يُعتبر لبنان حالياً وجهة استثمارية محفوفة بالمخاطر، بحيث يفضّل الأجانب خيارات أكثر أماناً في المنطقة.
ميزان المدفوعات
على الصعيد الخارجي، سجّل ميزان المدفوعات فائضاً بقيمة 1.6 مليار دولار أميركي في الأشهر الأحد عشر الأولى من السنة مقابل عجز بقيمة 3.2 مليارات دولار في العام 2022 بكامله. ويعود هذا الفائض المسجّل في ميزان المدفوعات، بالرغم من تقلّص الموجودات الخارجية الصافية لمصرف لبنان بقيمة 0.9 مليار دولار، الى ازدياد الموجودات الخارجية الصافية للمصارف بقيمة 2.6 مليار دولار. غير أن ذلك لا يدلّ على فائض المُدخلات على المُخرجات، لأن السيولة بالنقد الأجنبي لدى المصارف لم ترتفع إلاّ بمقدار 0.1 مليار دولار (من 4.2 الى 4.3 مليارات دولار). ونتج ذلك بخاصة عن انخفاض الإلتزامات الخارجية للمصارف بقيمة 3 مليارات دولار (من ودائع غير المقيمين بوجه خاص) جرّاء هبوط سعر الصرف الرسمي من 1507.5 ل.ل. الى 15000 ل.ل.، باعتبار أن قسماً من الالتزامات تجاه غير المقيمين هو بالليرة اللبنانية. وإذا احتسبنا ميزان المدفوعات بسعر الصرف الرسمي الثابت، يكون قد سجّل توازناً (بدون فائض او عجز) إبّان الفترة المعنيّة. علماً ان السيولة المصرفية بالنقد الأجنبي في الخارج وصلت إلى 4.3 مليارات دولار، إضافةً الى 0.8 مليار دولار من السيولة بالنقد الأجنبي في الخزائن المحلية.
مؤشرات القطاع المصرفي
ويُظهر التحليل التراكمي للقطاع المصرفي منذ بداية الأزمة المالية في لبنان، أي بين تشرين الأول 2019 وتشرين الثاني 2023، الإتجاهات التالية:
– انخفاض تراكمي كبير لمجموع الودائع بقيمة 73.4 مليار دولار أميركي نتيجة عمليات سحب وسداد قروض: فقد تراجعت ودائع الزبائن من 168.4 مليار دولار في تشرين الأول 2019 الى 95.0 مليار دولار في تشرين الثاني 2023، أي بما يعادل 44%. في هذا السياق، انخفضت ودائع المقيمين بقيمة 59.0 مليار دولار أميركي فيما انخفضت ودائع غير المقيمين بقيمة 14.4 مليار دولار. وتراجعت الودائع بالعملات الأجنبية بقيمة 32.4 مليار دولار في الفترة المذكورة لتبلغ 91.3 مليار دولار بينما تراجعت الودائع بالليرة بقيمة 12.1 ألف مليار ل.ل. لتبلغ 55.3 ألف مليار ل.ل. في نهاية تشرين الثاني 2023. ومن جرّاء ذلك، ارتفعت نسبة دولرة الودائع من 73.4% في تشرين الأول 2019 الى 96.1% في تشرين الثاني 2023.
– انخفاض تراكمي لمجموع التسليفات بقيمة 45.6 مليار دولار أميركي في إطار الجهود المبذولة لتقليص انكشاف المصارف: فالمصارف اللبنانية قلّصت انكشافها الى حدّ لافت منذ بداية الأزمة بحيث انخفضت محفظة تسليفاتها من 54.2 مليار دولار الى 8.5 مليارات دولار، أي بما يعادل 84%. ويشكّل سداد القروض 62% من تقلّص الودائع. وقد تراجعت التسليفات بالنقد الأجنبي بقيمة 30.4 مليار دولار لتبلغ 7.7 مليارات دولار بينما تراجعت التسليفات بالليرة اللبنانية بما يعادل 12.0 ألف مليار ل.ل لتبلغ 12.1 ألف مليار ل.ل.. ومن جرّاء ذلك، ارتفعت نسبة دولرة التسليفات من 70.4% في تشرين الأول 2019 الى 90.5% في تشرين الثاني 2023.
– انخفاض تراكمي لسيولة المصارف بالنقد الأجنبي في الخارج بقيمة 4.1 مليارات دولار. فقد تراجعت ديون المصارف اللبنانيّة على القطاع المالي غير المقيم من 8.4 مليارات دولار أميركي في نهاية تشرين الأول 2019 الى 4.3 مليارات دولار في نهاية تشرين الثاني 2023. ونتج ذلك عن الإستخدام الكبير للسيولة الأجنبية من قبل المصارف اللبنانية لتلبية سحوبات الزبائن النقدية في بداية الأزمة، ولاحقاً عقب صدور تعميم مصرف لبنان رقم 158.
– انخفاض تراكمي لمحفظة سندات اليوروبوندز لدى المصارف بقيمة 12.3 مليار دولار أميركي جرّاء صافي عمليات البيع المحلّية وعمليات رصد المؤونات. فقد بلغت محفظة سندات اليوروبوندز المملوكة من المصارف اللبنانية 2.4 مليار دولار أميركي في نهاية تشرين الثاني 2023 مقابل 14.8 مليار دولار في نهاية تشرين الأول 2019. ونتج هذا الإنخفاض عن صافي عمليات بيع سندات اليوروبوندز بخسارة من قبل المصارف، لا سيّما خلال الأشهر الأولى للأزمة، إضافةً الى عمليات رصدٍ كبيرة للمؤونات فرضتها السلطات النقدية على محافظ سندات اليوروبوندز.
– انخفاض تراكمي للأموال الخاصة بقيمة 15.4 مليار دولار أميركي، وذلك بسبب صافي الخسائر التي تكبّدتها المصارف. فالأموال الخاصة للمصارف تقلّصت من 20.6 مليار دولار في نهاية تشرين الأول 2019 الى 5.2 مليارات دولار في نهاية تشرين الثاني 2023، بسبب صافي خسائر المصارف إبّان هذه الفترة. وتعود الخسائر التي لحقت بالمصارف اللبنانية الى تكاليف الصرف الباهظة، والى مفاعيل الهوامش والزيادات الأجرية وازدياد الأعباء التشغيلية العائدة الى ارتفاع التضخّم، إضافةً الى المؤونات الكبيرة المرصودة تحسّباً للمخاطر السيادية ولمخاطر القطاع الخاص بوجه عام.
آفاق 2024: 3 سيناريوات
عن آفاق العام 2024 في ظل السيناريوات المختلفة المرتقبة تناول التقرير 3 سيناريوات:
السيناريو الإيجابي الذي نسبة احتمال تحققه تقارب 25% والسيناريو السلبي مع احتمال تحقق بنسبة 25% ايضاً والسيناريو الوسطي مع احتمال تحقق بنسبة 50%.
يعتمد السيناريو الإيجابي على نهاية للحرب المستجدة، انتخاب رئيس جمهورية قريباً، تشكيل حكومة فاعلة وكفوءة، إطلاق عجلة الإصلاحات، التوصل الى اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي والحصول على مساعدات خارجية. في حال تحقق مجمل هذه الفرضيات نتوقع ان تتخطى نسبة النمو الفعلي الـ7%، ينخفض معدل التضخم، يستقر سعر الصرف، تعزز احتياطيات مصرف لبنان ويسجل فائض في ميزان المدفوعات بمقدار 5 مليارات دولار.
اما السيناريو السلبي فيتمحور حول توسع دائرة الصراع على الأراضي اللبنانية، غياب الانتخابات الرئاسية وبالتالي غياب تشكيل الحكومة وغياب الإصلاح الاقتصادي وعدم الاتفاق مع صندوق النقد، ما يؤدي الى نسبة نمو سلبية في الناتج المحلي الإجمالي تقارب -20% وارتفاع نسبة التضخم الى 400% وانخفاض احتياطيات مصرف لبنان وتسجيل عجز في ميزان المدفوعات قدره ما لا يقل عن 5 مليار دولار.
يبقى ان السيناريو الوسطي يفترض بقاء الصراع في الجنوب محصوراً مع المحافظة على قواعد الاشتباك انما دون انفراجات سياسية داخلية تؤدي الى الإصلاحات الاقتصادية. في ظل هذا السيناريو الوسطي قد تناهز نسبة النمو الصفر بالمئة ومعدل التضخم يقارب 100% مع انخفاض طفيف في احتياطيات مصرف لبنان وشبه توازن في ميزان المدفوعات.
هذا ونظراً الى المفارقة الكبيرة بين السيناريوات الثلاثة نأمل ان يستقر الوضع جنوباً ويترفع السياسيون اللبنانيون عن مصالحهم الآنية ويحدوا من التجاذبات في ما بينهم ويعززوا الأرضية المشتركة ويسلكوا طريق التسوية والإصلاح».