رغم أن شركة «غلوبال كوم داتا سيرفيس «GDS» (عضو في مجموعة هولكوم التي تضم أيضاً IDM) حصلت من وزير الاتصالات السابق جمال الجراح على قرار مخالف للقانون يتيح لها تمديد شبكة «فايبر أوبتيك» باستعمال البنية التحتية لوزارة الاتصالات، ما أتاح لها الإثراء على حساب المال العام، أطلقت العنان لنفسها وقرّرت التمادي إلى حدود مقاضاة الدولة، مطالبة إياها بأرباح فائتة بقيمة 60 مليون دولار.
تزعم الشركة أن «أوجيرو» لم تفتح لها الأبواب للتوسّع في تمديد الشبكة بحسب المرسوم. معركة GDS وأوجيرو، تتجاوز الحدود القانونية والتجارية، إذ إنها تسلط الضوء على عيوب هيكلية في قطاع الاتصالات متزامنة مع إخفاقات حكومية في حماية المصلحة العامة.
في منتصف 2023 قدّمت شركتا «GDS وIDM» المملوكتان من مجموعة «هولكوم» التي يرأس مجلس إدارتها أنطوان فاضل، مراجعة قضائية أمام مجلس شورى الدولة، تدّعيان فيها بأنه يحقّ لهما المطالبة بتعويض من الدولة، قيمته 60 مليون دولار، بسبب أضرار ناتجة من تأخّر تفعيل كوابل الإنترنت الخاصّة بها في سنترالات هيئة أوجيرو. وتزعم الشركتان أنهما واجهتا عقبات مع وزارة الاتصالات ممثلةً بهيئة أوجيرو أدّت إلى خسائر مادية تستحق التعويض عنها.
استندت الشركتان (هما بالفعل شركة واحدة ضمن مجموعة هولكوم) إلى القرار 365/1 الصادر عن وزير الاتصالات السابق جمال الجراح والذي استعمله الجراح لإصدار قرار يتيح للشركة استعمال البنية التحتية الخاصة بوزارة الاتصالات لتمديد شبكة فايبر أوبتيك وتقديم خدمة الإنترنت للمشتركين في مناطق اتُّفق عليها.
وطلبت الشركة من القاضي نيكولا إيل تابت، تعيين خبير لإثبات هذه المزاعم، فوافق على تعيين لجنة خبراء للكشف على ما يتعلق بشركة GDS وأوجيرو، وحدّد إطار المهمة بالاطّلاع على الأوراق والمراسيم والقرارات والتراخيص وكل المستندات التقنية والكشف على الكوابل والإنشاءات المرخّصة والمنفّذة من قبل الشركة، والتثبّت من جهوزيتها لتقديم الخدمة وقدرتها الاستيعابية وتقدير أعداد وأحجام الاشتراكات العالقة وغير المفعّلة وتقدير قيمة الاستثمارات التي أنفقتها وقيمة الخسائر.
بدا كأنّ قرار القاضي وتقرير لجنة الخبراء لم يأتيا ليناقشا أصل المسألة، بل لحسمها في اتجاه منح الشركة التعويض، إذ ركّز التقرير على الجانب التقني مهملاً الجانب القانوني والإداري، أي الوعاء الذي أتى فيه المرسوم الذي منح الشركة ما يسمّى «حقوقاً».
وهذا ما دفع «أوجيرو» إلى الردّ بجملة وقائع قانونية متسلسلة تثبت أنها هي المتضرّرة لا الشركة التي أثريت على حساب المال العام. ردّ أوجيرو أشار إلى أن مرسوم الجراح «وضع مسماراً في نعش المرفق العام»، إذ إن صدوره شكّل «ضرراً فعلياً للمال العام» وكان بمثابة «فرصة لتفويت إيرادات لصالح الخزينة».
فوفقاً للمرسوم 365/1 منح الجراح، شركة «GDS» «حقّ بيع خدمة نقل المعلومات للمشتركين عبر الألياف البصرية، وستكون المالكة والمشغّلة لشبكة الاتصالات الثابتة، والقادرة على تقديم خدمات الاإترنت على الأراضي اللبنانية بتعرفة منافسة للتعرفة المعتمدة من قبل القطاع العام، ما يؤدي إلى منافسة غير مشروعة».
في الواقع، تشير أوجيرو إلى أن حقّ إنشاء شبكة المواصلات السلكية واللاسلكية محصور بموجب المادة 189 من المرسوم الاشتراعي 126، بوزارة البريد والبرق والهاتف، فضلاً عن أن إقامة المحطات اللاسلكية الخصوصية تخضع بموجب المادة 235 من المرسوم الاشتراعي، لمرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء، وتضيف المادة 237 من المرسوم الاشتراعي، بأنه «لا يرخّص بإنشاء وباستثمار محطات خصوصية للمراسلات اللاسلكية إذا كان بوسع دوائر المواصلات اللاسلكية في الدولة تأمين الغاية المقصودة من إقامتها».
أيضاً وردت هذه الحصرية في المادة الأولى من المرسوم الاشتراعي 127… بهذا المعنى، فإن المذكّرة الموقّعة بين وزارة الاتصالات أيام عبد المنعم يوسف، وشركات نقل المعلومات، هي إطار «استُعمل من أجل ضرب فكرة التعاون الوثيق بين القطاعين العام والخاص، إذ قد شرّعت دخول القطاع الخاص إلى البنية التحتية لوزارة الاتصالات ومراكزها الهاتفية لأسباب تبدو في الظاهر تأمين الخدمة العامة بينما هي في المضمون تؤمّن مصالح شخصية سياسية لهذه الشركات (من بينها GDS) التي تتوخّى الربح.
سلسلة من المخالفات التي بنيت على هذه المذكّرة أدّت في النهاية إلى إصدار وزير الاتصالات جمال الجراح القرار 365/1 الذي يمنح شركة GDS حق بيع خدمة نقل المعلومات للمشتركين عبر شبكة الألياف البصرية. ويعدّد ردّ أوجيرو، سلسلة المخالفات التي نتجت من صدور القرار، سواء ما يتّصل منها بالمرسوم الاشتراعي 126 والمرسوم الاشتراعي 127 والقرار 144، إذ إن القرار كان يفترض أن يصدر بمرسوم في مجلس الوزراء وليس بقرار من وزير. فضلاً عن أن القانون 431 المتعلق بتنظيم قطاع الاتصالات، أوجب منح تراخيص بمرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء بعد إجراء مزايدة عالمية.
وبحسب المرسوم 6288 في مادته الـ11، فإنه قبل البدء بإنشاء واستثمار الشبكة يفترض بالمرخّص له أن يقدّم إلى المديرية العامة للاستثمار في وزارة الاتصالات كل المستندات الفنية والاقتصادية والمالية المتعلقة بالشبكة التي سوف تنشئها وأن تجيب على أسئلة المختصين في المديرية كلما قضت الحاجة. وقد نصّ عدد من قرارات وزير الاتصالات على أن تقدّم الشركة طلبات المرور والترابط إلى الوحدات المختصة بالوزارة لدراستها تمهيداً للموافقة المسبقة عليها من قبل الوزير بعد استطلاع رأي الوحدات المختصة في الوزارة على أن يتم التنفيذ تحت الإشراف الدائم من قبل المراجع المختصة في الوزارة ووفقاً للشروط الفنية المحدّدة من قبلها.
وكان ديوان المحاسبة قد أوصى في أحد تقاريره السنوية بألّا تُعطى «أي شركة حق إنشاء شبكة رديفة خاصة بها على الأملاك العامة (تمديد ألياف بصرية في المسالك الهاتفية) إلى جانب الشبكة الخاصة بوزارة الاتصالات لتأمين نفس الخدمات التي تؤمّنها الوزارة، ما يخلق بالتالي منافسة غير مشروعة لصالح القطاع الخاص على حساب القطاع العام».
رغم ذلك كلّه، تعهّدت «GDS» في محضر اجتماع بينها وبين أوجيرو، بتنفيذ 302 كابل إنترنت في 24 مركزاً هاتفياً منتشرة على مختلف الأراضي اللبنانية.
ولكنّها ركّبت 7 كوابل منها فقط، وبقي 295 كابلاً على لائحة الانتظار. ولفتت أوجيرو إلى أن «GDS» لم تقدّم أي طلب معلومات أو كشوفات لتركيب هذه الكابلات.
وهي لم تلتزم بمبدأ «الموازاة»، أي إنها مدّت الشبكات الخاصة بها وأهملت شبكات أوجيرو التي تعهّدت بتنفيذها. مثلاً، في مركز المتن الأوسط الهاتفي، كان من المفترض أن تنفّذ «GDS» تركيب 11 كابلاً، 7 لها و4 لأوجيرو. فقامت بتركيب كابلاتها من دون تنفيذ أي كابل لوزارة الاتصالات، ما أمّن خدمة الإنترنت لـ4965 مشتركاً لدى الشركة، وحجبها عن مشتركي أوجيرو. لذا، «لا يمكن للشركة احتساب أو ادّعاء خسارة إيرادات»، تقول أوجيرو في ردّها على طلبات «GDS» بالحصول على تعويضات.
فمجرد ادّعاء وقوع الخسارة هو باطل، لأنّ الشركة لم تقم لا بإجراء الكشوفات لتمديد كابلات الإنترنت، ولا أعدّت مخططات تنفيذية وقدّمتها لوزارة الاتصالات للحصول على الموافقات اللازمة.
وفي المقابل، لفتت أوجيرو إلى وجود رسوم مستحقّة لها في ذمة الشركة، إذ قامت الهيئة بتنفيذ تركيب كوابل خاصة بالشركة على حسابها، وأصدرت للغاية سندات تحصيل بمبالغ لم تدفع حتى اللحظة، وبلغت قيمتها 208 آلاف دولار، من دون احتساب الضريبة على القيمة المضافة. كما لم تدفع «GDS» المبالغ المتوجّبة عليها جرّاء استغلالها للبنية التحتية لوزارة الاتصالات.
من جهتها، فنّدت المديرية التجارية في أوجيرو ادّعاءات «GDS» وقوعها في خسائر مالية، ووصفت كلام الشركة بـ«غير المعقول»، ورفضت معظم أجزاء تقرير الخبراء المعيّنين من قبل مجلس شورى الدولة، إذ لفتت إلى «عدم مصداقية التقرير، وانحيازه في جميع المراحل، وتبنيه سردية الشركة».
وأعاد أسباب الخروج بهذه النتيجة إلى «عدم التعمق في المشاكل والأسباب الفعلية لعدم وضع الكوابل في الخدمة». على سبيل المثال، ادّعت «GDS» أنّ عدداً كبيراً من زبائنها غادرها خلال فترة «العمل من المنزل أثناء جائحة كورونا»، ولجأ الخارجون إلى مقدّمي خدمات الإنترنت غير الشرعي في الأحياء.
فردّت أوجيرو بالتأكيد على أنّ مقدّمي الإنترنت غير الشرعي يحصلون على خطوطهم من الشركات المدّعية، وهذا النوع من الخدمات منتشر على كلّ الأراضي اللبنانية، لا في مناطق عمل الشركة المدّعية فقط. وأكّدت المديرية تعامل أوجيرو مع 5 تراخيص مشابهة لترخيص «GDS»، وهذا الأمر يتطلب من الهيئة تجميد جزء من مواردها البشرية للتعامل مع هذه الشركات فقط، وهو ما يؤثّر سلباً على خدمات أوجيرو الأخرى.
تاريخ العلاقة بين أوجيرو وشركات الإنترنت
تنقسم العلاقة بين وزارة الاتصالات وهيئة أوجيرو من جهة، وبين شركات توزيع الإنترنت من جهة ثانية، إلى 3 مراحل زمنية؛ الأولى، ويمكن تسميتها بـ«مرحلة مذكّراتِ التفاهمِ» التي تمتدّ من عام 2000، حتى عام 2006 حين جرى توقيع مذكّرات التفاهم بين الطرفين في إطار ما روّج له «تطوير البنية التحتية وتقديم خدمات الإنترنت»، علماً أن الشركات كان هي المستفيد الأساسي من هذه المذكّرات.
لكن هذه المذكّرات لم تُترجم إلى نصوص قانونية ملزمة، ما فتح الباب للتأويلات المُختلفة للنصوص القانونية، واستغلال الثغرات.
أما المرحلة الثانية، فهي «مرحلة القرارات الوزارية المُتنازع عليها» التي تمتدّ من عام 2006 إلى عام 2018 حين صدرت قرارات وزارية منحت الشركات الخاصة، وعلى رأسها «GDS»، حقّ استخدام بنية أوجيرو التحتية.
وتعتبر الهيئة أنّ «هذه القرارات مخالفة للقوانين التي تنصّ على حصرية الدولةِ في هذا القطاع» وأنّ شركات الإنترنت لم تحترم الإجراءات المطلوبة. وتصف أوجيرو المرحلة الثالثة بـ«مرحلة التمديدات غير القانونية» التي تمتدّ من عام 2018 حتى الآن.
وخلالها تبيّن أنّ «عدداً من شركات الإنترنت، ومنها «GDS»، مدّدت شبكاتها بشكل مخالف للقوانين ومن دون الحصول على التراخيص اللازمة، ومن دون الالتزام بعدد من مبادئ الشراكة بين القطاعين الخاص والعام، منها مبدأ الموازاة مع شبكات أوجيرو، ما أدّى إلى إثراء الشركات على حساب المال العام.
50550
هو عدد المشتركين الذين أدخلتهم GDS على شبكة الإنترنت الخاصة بأوجيرو بسبب تقاعسها عن تمديد الكابلات في السنترالات التي تعهّدت بالعمل فيها
12824
هو عدد اشتراكات الإنترنت من فئة «فايبر أوبتك» التي كان يمكن زيادتها في 24 سنترالاً تابعاً لأوجيرو في مختلف المناطق اللبنانية لولا المنافسة غير المشروعة التي تعرّضت لها