رغم أن الأزمة كانت مدمّرة للنسيج الاقتصادي والاجتماعي في لبنان، إلا أن بعض مراحلها شكّل نوافذ صغيرة كان يمكن استغلالها لتطوير الاقتصاد. غير أن الحياد السلبي الذي مارسته السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، أي الاكتفاء بمراقبة مفاعيل الانهيار، أدّى إلى تفويت هذه الفرص، ومنها فرصة بناء قواعد إنتاجية متينة تستغلّ الانخفاض في قيمة العملة وفي كلفة الإنتاج. هناك إجماع على أنّ أحد أبرز مصادر الأزمة في لبنان، هو العجز في ميزان المدفوعات الذي ينتج أساساً من عجز الميزان التجاري. هذه ظاهرة تُفقد الاقتصاد ميزة الاستدامة، ربطاً بكلفة تمويل استيراد السلع الأساسية والرفاهية. فالاعتماد على الاستيراد يسبّب نزيفاً في العملات الأجنبية، ويدفع الاقتصاد نحو حلقة مفرغة من الاستيراد والنزيف. وهناك نموذجان للتعامل معه: استبدال الاستيراد وتعزيز القدرة الإنتاجية المحلية للتخلّي عن الاستيراد ووقف نزف العملات الأجنبية، أو زيادة القدرة التصديرية للحصول على العملات الأجنبية اللازمة لتمويل الاستيراد. الأمر الثاني يتم عبر التركيز على إنتاج أنواع محدّدة من السلع بشكل كثيف.
النموذج الأول لم يعد يحظى بشعبية كبيرة في السياسات الاقتصادية منذ بلغت العولمة الاقتصادية أقصى درجاتها، وخصوصاً في حقبة التسعينيات، باستثناء الدول التي أُخرجت من النظام الاقتصادي العالمي، وهي بشكل أساسي الدول المُحاصرة التي فُرض عليها اتباع سياسات للتخلي عن الاستيراد. لكن لبنان لا يصنّف من بين هذه الدول لأن قدرته على الاستيراد مربوطة فقط بقدراته على تأمين العملات الأجنبية لذلك. لذا، ينطبق عليه النموذج الثاني في التعامل مع أزمته البنيوية، أي السعي إلى تنمية صادراته، باعتبار أن حجم البلد وافتقاره إلى الموارد الطبيعية والبشرية لا يكفي لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
لكن هذا النموذج لم يظهر في لبنان بعد. فخلال الأزمة التي انخفضت فيها قيمة العملة بشكل كبير وخلقت ظروفاً مؤاتية للإنتاج بأكلاف أدنى تزيد القدرة على التنافس في الأسواق الخارجية، لم تتحسّن أرقام التصدير اللبناني. بدا الأمر معاكساً تماماً لنظريات الاقتصاد السائدة، التي تقول إن انخفاض قيمة العملة يسهم في ارتفاع تنافسية البضائع المحلية في الخارج، وبالتالي يسهم في ازدياد الصادرات. صحيح أن الصادرات ارتفعت إلى 4.2 مليارات دولار في عامَي 2019 و2021، إلا أنها في عام 2022 عادت إلى مستويات ما قبل الأزمة. الواقع، إن تطبيق هذه النظرية يحتاج إلى وجود قدرات وبنى تحتية وقرارات تحفيزية لم تصدر. لا بل أسوأ من ذلك. إذ شهدت التجارة اللبنانية الخارجية تراجعاً في المنتجات التي يتميّز إنتاجها في لبنان بالميزة التفاضلية. ففي التجارة الدولية، يمكن أن تتمتع دولة مثل لبنان بميزة نسبية للسلعة عندما تتمكن من إنتاجها بكفاءة عالية (باستخدام موارد أقل) مقارنة بالدول الأخرى، حتى لو كانت الدول الأخرى قادرة على إنتاجها مقابل تكلفة أقل (الميزة المطلقة). وتسمح هذه الكفاءة للبنان ببيع المنتج بسعر أقل أو بهامش ربح أعلى.
يستخدم الباحثون في مركز «مبادرة سياسات الغد» في دراستهم الأخيرة بعنوان «تفكيك ميزان لبنان التجاري في ظل الأزمة» مؤشّر «الميزة النسبية المكشوفة» لقياس الميزة التفاضلية للسلع. يعبّر هذا المؤشر عن مهارة تصنيع وبيع سلعة محدّدة في السوق العالمية. فإذا كانت صادرات بلد ما من هذه السلعة مقارنة مع مجمل صادراتها، أعلى من المعدلات العالمية، يكون لدى البلد المنتج ميزة تفاضلية أو نسبية فيها. لكن في سنوات الأزمة، تبيّن الدراسة أن عدد المنتجات المُصدّرة ذات الميزة النسبية انخفض من 216 منتجاً في 2018 إلى 203 منتجات في 2022، أي بتراجع نسبته 6%.
هذا المؤشّر لا يظهر فقط أن الدولة اللبنانية لم تستغلّ انخفاض قيمة العملة لزيادة إنتاج السلع التي تملك ميزة نسبية، بل حتى إن مسار الأزمة الذي كان يفترض أن يحفّز الإنتاج المحلي، أسهم في فقدان تصدير سلع كانت تملك ميزة نسبية.
وتظهر الدراسة أنه بين عامَي 2018 و2022، ارتفع حجم التصدير في ثلاثة قطاعات فقط، هي البلاستيك والمطاط، الخضروات، والمعادن، في حين بقي القطاع الذي يحظى بأعلى قيمة صادرات، أي الأحجار الثمينة، على حاله. يمثّل بعض هذا الارتفاع طرقاً جديدة للتكيّف مع الأزمة. فعلى سبيل المثال، أثناء الأزمة ارتفع حجم صادرات الخردة، ما أسهم في ارتفاع صادرات المعادن. إذ إن أعلى 5 منتجات مُصدّرة من المعادن عام 2022، بحسب أرقام الجمارك اللبنانية، ضمّت ثلاثة أنواع من الخردة وهي: «حديد»، «نحاس»، و«ألمنيوم». وقد بلغ حجم عائد تصدير هذه الأنواع الثلاثة نحو 282 مليون دولار، أي ما نسبته نحو 58% من صادرات المعادن في ذلك العام. علماً أن صادرات هذه البنود الثلاثة كانت تبلغ 229 مليون دولار عام 2018، أي إن صادراتها ارتفعت بنسبة 23% في الأزمة. ارتفاع حجم صادرات الخردة كان جزءاً من عمليّة التكيّف، إذ شهد هذا القطاع توسّعاً أكبر بسبب كلفته المنخفضة، فهو يحتاج إلى يد عاملة غير ماهرة، ولا يدخل فيه أي عملية تحويل أو إعادة تحويل، وفي المقابل عائداته مرتفعة. وتوسّع هذا القطاع هو أمر طبيعي خلال الأزمات، وهو أمر حصل في فنزويلا مثلاً، في حين واجهته بعض الحكومات بمنع التصدير في العديد من الدول، مثل ما فعلت مصر في نهاية عام 2022.
ارتفاع حجم الصادرات خلال الأزمة كان نتيجة طبيعية للمسار الذي اتُخذ خلال الأزمة. إذ إن السقوط الحرّ الذي شهده الاقتصاد، من دون أي تغيير يسهم في تحفيز القواعد الإنتاجية في البلد، كان لا بد أن ينتهي بهذا الشكل. أما الآن، فقد أقفلت نافذة استغلال الأزمة لأن العوامل المساعدة التي وفرتها لجهة انخفاض كلفة الإنتاج، تبخّرت.