تعادل اليورو والدولار

هل تؤدي الأوضاع العالمية الحالية وتحديدا الحرب الأوكرانية في واقعها ونتائجها الى عودة التعادل بين اليورو والدولار بعد غياب 20 سنة. في الاقتصاد، نعتقد أن سعر الصرف يعكس الأوضاع الاقتصادية في الدول التي تصدر النقد. اليورو نقد مشترك لـ 19 دولة قررت الانضمام الى النادي الذي يدار من قبل المصرف المركزي الأوروبي في فرانكفورت. المعلوم أن اليورو وجد سنة 1999 لتوحيد أوروبا وتحقيق الازدهار والاستقرار فيها. هل الأوضاع الاقتصادية في أوروبا والولايات المتحدة تدفع نحو التعادل أو التكافؤ النقدي؟.

أولا: كيف يمكن وصف الأوضاع في أوروبا وتحديدا في منطقة اليورو؟ تبعا لأرقام صندوق النقد الدولي، من المتوقع أن تنمو منطقة اليورو 2,8% هذه السنة مقابل 3,7% للولايات المتحدة أي أن النسب متقاربة. أما بالنسبة للسنة المقبلة، تشير الأرقام الى تعادل النمو المتوقع أي 2,3% للمنطقتين مما يقرب الأوضاع أكثر. المشكلة الأهم في منطقة اليورو هي التضخم اذ لم يبدأ المصرف المركزي الأوروبي بعد برفع الفوائد كما فعل المصرف المركزي الأميركي. هنالك معلومات بأن الفوائد على اليورو سترتفع بدأ من شهر تموز المقبل لكن هذا ليس مؤكدا، علما ان الفوائد على النقد الأوروبي لم ترتفع منذ عشر سنوات.

لا شك أن توافر المحروقات من نفط وغاز وأسعارها يشغلان بال الحكومات كما المواطنين لأن الاقتصاد الأوروبي بحاجة اليهما وروسيا كانت مصدرهما الأساسي. قررت أوروبا مقاطعة الامدادات الروسية مما أشعل القلق كما الأسعار، وهذا ما يحصل بانتظار ايجاد مصادر بديلة كافية من مناطق أخرى كالخليج. بالرغم من زيادة انتاج النفط من قبل مجموعة أوبك وحلفائها، لا زالت الأسعار مرتفعة بسبب القلق من عدم استمرار توافر المادة بسبب الحرب وصعوبة النقل وتكلفته.

هنالك خوف في أوروبا من الركود القاسي الذي يمكن أن ينتج عن الأوضاع العامة في القارة، وبالتالي تتأثر الأوضاع الاقتصادية سلبا. امكانية حصول ركود في منطقة اليورو كبيرة أي زيادة في البطالة وتدني في المنافع والأجور كما في مستوى المعيشة. جميع هذه العوامل تدفع اليورو الى الأسفل أي الى تعادله مع الدولار في وقت قريب. انخفاض اليورو يعزز أوضاع السياحة الأميركية في القارة القديمة هذا الصيف، وهذا مهم جدا للفريقين. من ناحية أخرى انخفاض اليورو تضخمي لأوروبا اذ يرفع تكلفة الاستيراد ويخفض قيمة أرباح الشركات الأميركية في أوروبا التي تقيم حساباتها بالدولار. من الممكن أن يدفع انخفاض اليورو الشركات الأميركية الى التفتيش عن مواقع جغرافية أخرى لاستثماراتها، مما يؤثر سلبا على النمو الأوروبي والبطالة.

بلغت نسبة التضخم السنوية في منطقة اليورو 8,1% في شهر أيار الماضي وهي الأعلى منذ انشاء النقد المشترك، مرتفعة من 7,4% في نيسان وكانت تزداد باستمرار خلال الأشهر العشرة الماضية. تتأثر الدول الأوروبية بالتضخم بنسب مختلفة تبعا لقربها من روسيا كما بسبب النتائج العامة للحرب الأوكرانية وامدادات الطاقة اليها. نسب التضخم تصل الى 20% في استونيا، 8,5% في اسبانيا، 8,7% في ألمانيا، 5,8% في فرنسا و 7,3% في ايطاليا. في ألمانيا تدعم الدولة اليوم أسعار المحروقات وكذلك وسائل النقل العام.

ثانيا: كيف يمكن وصف الأوضاع في الولايات المتحدة البعيدة جغرافيا عن أوكرانيا والقريبة جدا سياسيا واقتصاديا وأمنيا؟ تبلغ نسبة التضخم السنوية في أميركا 8,3% وهي مرتفعة جدا في وقت يقوم خلاله المركزي برفع الفوائد وتقليص حجم ميزانيته لمحاربة التضخم وسيستمر بذلك. في نفس الوقت ما زال الاقتصاد الأميركي جاذبا جدا للاستثمارات لأنه يعتبر موقع آمن سياسيا واقتصاديا وان لم يكن بالضرورة ماليا. هنالك خطر من توجه الاقتصاد نحو الركود بسبب ارتفاع الأسعار لكن ما ينقذه حتى اليوم هو الادخار المرتفع الذي تحقق في زمن الكورونا والانعزال والذي بلغ ألفا مليار دولار. بدأ المواطنون بانفاق هذه الأموال مما يبقي الاقتصاد حيويا لكن ليس الى آجل طويل.
هنالك مؤشرات في أسواق العمل والعقارات بدأت تدل على وجود مشكلة ركود قادمة. نسبة زيادة فرص العمل تنخفض كما أن نسبة ارتفاع عمليات شراء العقارات تتدنى. قال «بول سامولسون» الاقتصادي الكبير أن الركود الخفيف ليس بالضرورة سيئا لأنه يحمي من التضخم. لكن ما هي الضوابط لهذا الركود الذي يمكن أن يتفاقم ويضر بكل شيء؟ لذا في رأيه يجب تقييم كل المساوئ والمنافع لأي سياسات محاربة للتضخم قبل اعتمادها.

قال الرئيس بايدن أنه لا يستطيع عمل الكثير لتخفيض أسعار الغذاء والمحروقات لكنه يمكن أن يتواصل مع منتجي النفط والغاز لزيادة الانتاج وهذا ما فعله وسيستمر به. من الممكن أن يستطيع تخفيض تكلفة الدواء والاستشفاء كما تكلفة عناية الأطفال وغيرها من الأمور المهمة تعويضا عن التضخم النابع من المحروقات والغذاء. سيحاول بايدن القيام بكل ما يستطيع لمحاربة التضخم وحماية معيشة المواطنين تعزيزا لفرص المنافسة ضد الجمهوريين في الانتخابات التشريعية المقبلة في تشرين الثاني.

يبقى أن هنالك عاملان لم يفسرا بعد بشكل كاف وهما مدى تأثر روسيا بالعقوبات الغربية وامكانية حصول حروب نقدية بين الدول الأساسية وخاصة بين الولايات المتحدة ومنطقة اليورو. لا شك أن روسيا بدأت تتأثر جديا بالعقوبات وخاصة المجموعة السادسة من العقوبات الأوروبية التي تطال أكثر الأمور الكبيرة من تجارية ومالية واستثمارية. صادرات الغاز تدنت أكثر من الثلث مقارنة بكانون الثاني. روسيا تتأثر، لكن العالم يتأثر معها. حجم روسيا الاقتصادي هو 2% فقط من الاقتصاد العالمي، لكن سلعها المصدرة من غذاء ومحروقات ومعادن مهمة جدا وبالتالي تأثيرها على الأرض أكبر من حجمها. هنالك صراع روسي غربي شامل والفائز سيكون من يستطيع تحمل الأوجاع أكثر ويعالجها بنجاح أكبر وسرعة أفعل.

أما حرب العملات فكانت تمارس كثيرا في الماضي بين الدول حتى داخل أوروبا وهدفها تحسين المواقع الاقتصادية للصادرات. أما اليوم، واذا دخلت منطقة اليورو والولايات المتحدة بالاضافة الى الدول الأخرى الأساسية في حروب نقدية فستكون ذات خطورة مرتفعة تؤدي الى خسارة الجميع وان يكن بنسب مختلفة. في كل حال الخاسر الأكبر من أي حروب نقدية ستكون مجموعة الدول الناشئة والنامية والأخيرة تحديدا، وهذا يجب أن يكون مؤلما للعالم.
التضخم هي المشكلة الكبرى المشتركة للطرفين الأوروبي والأميركي، والحل يكمن في رفع الفوائد كل من جهته. كل هذه التحليلات تشير الى امكانية حصول التعادل بين الدولار واليورو قريبا.

مصدراللواء - الدكتور لويس حبيقة
المادة السابقةبين إفلاس الدولة ورواتب الهيئات الإقتصادية
المقالة القادمةالوزير يمنع “الدولرة”… وتحذيرٌ من هذا السيناريو!