بلغ سعر صرف الجنيه الإسترليني أعلى مستوياته خلال هذا الشهر، ولكن هل سيواصل صعوده مقابل اليورو والدولار وسط تعثر مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي “بريكست” والانكماش الاقتصادي الكبير الذي تعاني منه البلاد؟ سؤال بات يشغل بال المستثمرين في سوق العملات.
يعد الجنيه الإسترليني من أكثر العملات حساسية للتقلبات الاقتصادية والاضطرابات السياسية في العالم، إذ إن الاقتصاد البريطاني من الاقتصاديات متنوعة المصادر التي تعتمد في النمو على الخدمات والسياحة والصناعة وقطاع الإنشاءات والقدرة الشرائية المرتفعة، وعلى جذب الاستثمارات الأجنبية وتوظيفها في حي المال اللندني.
وبناء على هذه المكونات الاقتصادية يرى خبراء أن سعر رصف العملة البريطانية تدعمه عوامل متعددة، ولكن على المدى القصير يعتمد سعر صرفه على ترتيبات التجارة مع دول الاتحاد الأوروبي الجارية حالياً ضمن الفترة الانتقالية لاتفاق “بريكست” التي حدد لها نهاية يناير/ كانون الثاني المقبل.
أما العامل الثاني المؤثر في سعر صرف الإسترليني على المدى القصير، فهو الانتخابات الأميركية التي أنشأت حالة من عدم اليقين في سوق الصرف العالمي. على المدى الطويل، فإن سعر صرف الجنيه الإسترليني يعتمد على النمو الاقتصادي البريطاني، وتجاوز تداعيات جائحة كورونا، وكذلك على الترتيبات التجارية التي ستحكم التجارة البريطانية في فترة ما بعد بريكست، خاصة نجاح الشراكات التجارية الكبرى التي تعكف حكومة بوريس جونسون على تنفيذها مع كل من الولايات المتحدة الشريك التجاري الثاني بعد الكتلة الأوروبية والشراكة مع اليابان، ثالث أكبر اقتصاد في العالم. وقد قطعت الشراكة مع اليابان شوطاً كبيراً وأصبحت شبه جاهزة حسب التصريحات الرسمية اليابانية. كما أن هنالك مشاريع شراكة تم التفاهم الأولي حولها مع كل من كندا وأستراليا والهند.
في شأن محادثات بريكست وتداعياتها على العملة البريطانية، قال خبير العملات بمصرف لويدز البريطاني، روبن ويلكن، “إن الإسترليني سيعاني من الضغوط في حال خروج بريطانيا من المحادثات المقبلة دون اتفاق”.
وكان رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون قد قال يوم الإثنين، “إن بريطانيا ستقبل بالخروج من الاتحاد الأوروبي دون ترتيبات تجارية إذا لم يحدث تقدم بحلول منتصف شهر أكتوبر المقبل”.
وحدد جونسون هذا التاريخ لأنه يوافق انعقاد المجلس الأوروبي السنوي لقادة الكتلة الأوروبية. وكان بوريس جونسون قد تلقى يوم الإثنين مكالمة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تناولت ضرورة التقدم في المحادثات نحو التوصل لترتيبات تجارية.
من جانبها قالت استراتيجية العملات بمصرف غولدمان ساكس، كارن ريختون فيشمان، في تحليل، إن العملة البريطانية ستتراجع على المدى القصير بسبب الغموض الذي يلف بريكست.
وأضافت أن مصرف “غولدمان ساكس” الاستثماري الأميركي سيتفادى التعامل في الإسترليني إلى حين تتضح الرؤية حول بريكست، ومعرفة صحة الاقتصاد البريطاني الذي يعاني من الانكماش الكبير بسبب جائحة كورونا. ويعتقد مصرف “غولدمان ساكس”، أن محادثات بريكست ستنتهي بترتيبات تجارية محدودة وفترة انتقالية طويلة لتنفيذها.
من جانبه قال كبير المفاوضين في بريكست، اللورد ديفيد فروست، “لقد كنا واضحين منذ البداية إن ما سنقبل به من اتفاق هو الاستقلال الكامل عن الاتحاد الأوروبي”.
وتطالب بريطانيا باتفاق تجاري مع الكتلة الأوروبية شبيه بالترتيبات التجارية التي لديها مع كندا، بينما تطالب المجموعة الأوروبية بريطانيا بقبول إجراءات ومعايير أوروبية بشأن السلع والخدمات.
ويذكر أن الإسترليني حقق أعلى ارتفاعاته في الأسبوع الماضي ومنذ استفتاء بريكست، مستفيداً من ضعف الدولار. وعادة ما تتراجع العملة الأميركية أو ” الورقة الخضراء”، قبل الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة بسبب الغموض السياسي حول مستقبل السياسة النقدية، واستمرارية ضخ الدولارات في السوق.
ولكن خلال انتخابات الثالث من نوفمبر المقبلة، فإن هنالك عوامل أخرى جذبت الدولار نحو التراجع أكثر مما كان يحدث في فترات الانتخابات السابقة.
وهذه العوامل هي حالة الانقسام العرقي داخل الولايات المتحدة، وتداعيات جائحة كورونا على النمو الاقتصادي والسياسة النقدية الميسرة لمصرف الاحتياط الفدرالي” البنك المركزي الأميركي” التي وسعت من الكتلة النقدية بنحو 5 ترليونات دولار.
ويرى محللون بمصرف “دويتشه بنك” الألماني أن عامل بريكست كان وراء التراجع الذي شهدته العملة البريطانية في بداية الأسبوع الجاري.
وتراجع سعر صرف الإسترليني عن مستوياته المرتفعة التي بلغها الأسبوع الماضي، إذ تراجع في تعاملات الإثنين الصباحية في لندن إلى 1.3223 دولار من 1.3480 دولار، كما تراجع مقابل العملة الأوروبية من 1.128 إلى 1.1175 يورو.
أما على المدى المتوسط، فإن خروج بريطانيا من الانكماش الاقتصادي الكبير الناتج عن تفشي وباء كورونا ربما سيكون من أهم محفزات ارتفاع العملة البريطانية، إذ إن انتعاش الاقتصاد سيعني عودة الوظائف وزيادة الدخل من الضرائب وتقليل نفقات دعم المواطنين، كما السيطرة على جائحة كورونا ستعني عودة النشاط الاستثماري لسوق المال البريطاني.
أما على صعيد حي المال، فإن انتعاش حي المال البريطاني يعني بالنسبة للإسترليني جذب الثروات العالمية، وزيادة حجم الصفقات التجارية في سوق المال وتحريك السوق العقاري.
وحتى الآن لم يؤثر حي المال في حركة سعر العملة البريطانية بسبب محدودية حركة التجارة والسفر، ولكن على المدى المتوسط، فإن الشراكات التجارية خاصة نجاح الشراكة مع الولايات المتحدة التي لديها أكبر المصارف الاستثمارية في العالم وتتخذ معظمها من لندن مقراً لها سيكون له فعل السحر في تحريك الصفقات على الجنيه الإسترليني.
وهنالك ارتباط وثيق بين سوق ” وول ستريت” وبورصة لندن، إذ إن معظم الشركات التي تخلق الثقل التجاري لمؤشر “فوتسي 100” في البورصة البريطانية من الشركات التي تعتمد في دخلها على السوق الأميركي. وبالتالي فإن اتفاق الشراكة التجارية مع الولايات المتحدة سيكون من العوامل المهمة في دعم سعر صرف الإسترليني.
كما أن بريطانيا قطعت شوطاً في المحادثات التجارية مع اليابان. وحسب التصريحات الرسمية اليابانية، فإن طوكيو باتت على وشك توقيع اتفاق الشراكة التجارية.
على صعيد نتائج الانتخابات لرئاسية الأميركية وتداعياتها على الإسترليني، لاحظ مراقبون أن لدى ترامب علاقات خاصة مع رئيس الوزراء بوريس جونسون، كما يعول ترامب على كسب ود بريطانيا في الحرب الباردة التي ينوي من خلالها عزل الصين تجارياً وسياسياً وتقنياً عن العالم الرأسمالي.
وبالتالي ففي حال فوز ترامب بدورة رئاسية ثانية وتوقيع اتفاقات الشراكة، فإن الجاذبية الاستثمارية ستعود بقوة للإسترليني خلال العام المقبل. ومن المقرر استئناف مفاوضات الشراكة بين الجانبين في الربيع المقبل.
يذكر أن الناتج الاقتصادي البريطاني انكمش بنسبة 20.4% في الربع الثاني من العام 2020، وهو أسوأ تراجع ربع سنوي على الإطلاق، كما شهدت قطاعات الصناعة والخدمات والإنتاج والبناء، انخفاضاً قياسياً.
لكن لم يكن للانكماش تأثير كبير في أسواق الصرف، وهو ما يدل على أن الإسترليني عملة دولية أكثر منها عملة محلية. ولكن يلاحظ أن أسعار المساكن البريطانية واصلت الارتفاع خاصة في قطاع العقارات الفاخرة والمساكن الريفية التي استفادت من لجوء الأثرياء إلى الريف بعيداً عن زحمة المدن وتفادياً لجائحة كورونا.
كما خسر الاقتصاد البريطاني نحو 730 ألف وظيفة منذ أن أدت جائحة فيروس كورونا إلى إغلاق الشركات في مارس/آذار الماضي، ولايزال الشباب وكبار السن وأصحاب الأعمال الحرة تحت وطأة أزمة البطالة.