تعدد أسعار الصرف: من يتعمّد ذبح الاقتصاد اللبناني؟

من أزمة الكهرباء والمولّدات الخاصّة إلى الاحتكارات والوكالات الحصريّة ومراكب الهجرة غير الشرعيّة، تشير التجربة إلى أنّ المنظومة السياسيّة غالبًا ما تتعمّد عرقلة الحلول المطلوبة لأي أزمة، بمجرّد خلق شبكات المصالح التي تستفيد من هذه الأزمة. وعلى هذا النحو، بات أخطر ما في أزمة تعدد وفوضى أسعار الصرف كثرة شبكات المصالح المرتبطة بهذه الظاهرة، والتي باتت تفسّر التلكّؤ المتعمّد والمتكرّر في الشروع بتوحيد أسعار الصرف، رغم كون هذا المسار حجرة الانطلاق الأولى لعودة الإنتظام النقدي.

مع الإشارة إلى أنّ اعتماد صرف مستحدث وعبثي لاحتساب الرسوم والضرائب في الموازنة التي تم إقرارها يوم الإثنين الماضي، لا يخرج من إطار شبكات المصالح هذه، وخصوصًا تلك التي ترتبط بكبار المستوردين في السوق. وبخلاف ما أعلنه وزير الماليّة يوسف الخليل اليوم الأربعاء، لن يسهم رفع سعر الصرف الرسمي بالاقتراب كثيرًا من توحيد أسعار الصرف، طالما أن سعر الصرف هذا سيظل أحد أسعار الصرف المتعددة والمعتمدة من قبل الدولة ومصرف لبنان (راجع المدن).

شبكات مصالح مرتبطة بتعدد أسعار الصرف

تتشعّب الأرباح الضخمة التي يجنيها أطراف مختلفون نتيجة تعدد أسعار الصرف بشكل عبثي وفوضوي في السوق، كما تتعدد المصالح التي تحميها في الوقت الراهن هذه الظاهرة، والتي يمكن تصنيفها على الشكل التالي:

– سعر صرف منصّة صيرفة: حتّى اللحظة، ما زال سعر صرف منصّة صيرفة أحد أسعار الصرف المُحددة بشكل ملتبس وغامض من قبل مصرف لبنان، من دون أن يعكس سعر الصرف الفعلي والموحّد والعائم كما كان مخططًا في البداية. ومع استمرار التباين بين سعر صرف المنصّة وسعر السوق الموازية، يستفيد من هذا الواقع بعض المستوردين الذين يملكون حظوة الحصول على دولارات المنصّة بسعر الصرف المنخفض، قبل بيع السلع المستوردة بسعر صرف السوق الموازية المرتفع. كما يستفيد من سعر الصرف هذا بعض المضاربين الذي يحصلون على دولارات المنصّة بالسعر المدعوم، قبل بيعها بسعر السوق الموازية. وفي جميع الحالات، تبقى الإشكاليّة الأولى حتّى اللحظة غياب آليّات التداول الشفافيّة في ما يخص دولارات المنصّة، وطريقة تحديد سعر صرف المنصّة غير المفهومة.

– سعر صرف سداد الرسوم والضرائب: سيتم اعتماد 15 ألف ليرة كسعر صرف محدد في الموازنة لاستيفاء الرسوم والضرائب، وهو ما سيسمح للشركات بتحصيل أرباحها بالدولار النقدي ومن ثم سداد الضريبة وفقًا لسعر صرف مخفّض يقل بنسبة 60% عن سعر الصرف الفعلي في السوق. ومن هنا، يمكن فهم إصرار الهيئات الاقتصاديّة قبل إقرار الموازنة على الضغط باتجاه تخفيض سعر صرف الإيرادات في الموازنة قدر الإمكان.

– سعر صرف مصرف لبنان الرسمي: والذي يتم اعتماده حاليًّا للتصريح عن ميزانيّات مصرف لبنان والمصارف التجاريّة. وبمجرّد وجود التفاوت بين سعر الصرف هذا وسعر صرف السوق الموازية، فسيكون المصرف المركزي قد ساهم بإخفاء جزء من الخسائر المتراكمة في الميزانيّات، والتي تتمثّل اليوم في الفارق بين الموجودات والإلتزمات بالعملات الأجنبيّة.

– عمولات جمع الدولار في السوق الموازية: في ظل الفارق بين سعر صرف المنصّة وسعر السوق الموازية، مازالت المنصّة غير قادرة على اجتذاب عمليّات بيع الدولار، التي تتجه تلقائيًّا نحو السعر الأعلى في السوق الموازية. ولهذا السبب بالتحديد، يعتمد مصرف لبنان على مجموعة صغيرة من شركات الصيرفة، التي تقوم بجمع الدولارات لمصلحته من السوق الموازية، مقابل عمولات مرتفعة تصل لنحو 3% من الدولارات التي يتم جمعها. وبذلك، باتت عمليّة جمع الدولارات لمصلحة هذه الشركات شبكة كاملة تدر على أصحابها أرباح خياليّة بشكل يومي، وهو ما يُضاف إلى شبكات المصالح المستفيدة من فوضى وتعدد أسعار الصرف.

الموازنة وعرقلة توحيد أسعار الصرف

في كل الإجراءات التي تم اتخاذها، سواء على مستوى الحكومة أو مجلس النوّاب، أو على مستوى السلطة النقديّة، كان من الواضح أن ثمّة عرقلة متعمّدة تحول دون الاتجاه لتوحيد أسعار الصرف. أبرز مثال على سبيل المثال، كان تعمّد الإبقاء على سعر صرف الإيرادات عند حدود 1500 ليرة للدولار، بخلاف مقترح صندوق النقد الأساسي الذي أوصى باعتماد سعر صرف واقعي ومتحرّك كسعر منصّة صيرفة، مع الرهان على تكريس سعر صرف المنصّة لاحقًا كسعر صرف حقيقي للدولار. ومجرّد إبقاء التفاوت بين سعر صرف الإيرادات وسعر السوق، سيعني إعفاء فئات واسعة من المتمولين والتجّار من عبئ دفع الضريبة وفقًا لسعر الصرف الفعلي، والإبقاء على التهرّب من جزء كبير من الضريبة باعتماد سعر صرف متدنٍّ لسداد الضرائب.

مع الإشارة إلى أنّ تثبيت سعر صرف الواردات عند هذا الحدود كما حصل، مع الإبقاء على تفلّت سعر صرف السوق الموازية، سيعني تثبيت حجم الواردات، مع تقلّص قدرة الدولة على الإنفاق نتيجة تدهور قيمة سقوف الإنفاق المحددة بالليرة، وهو ما سيكرّس الشلل في عمل الدولة. كما سيعني ذلك عجز الدولة عن إجراء أي تصحيحات وازنة في قيمة أجور ورواتب القطاع العام، ما سيبقي على ظاهرة إقفال الإدارات العامّة طوال أيّام الأسبوع.

الحجّة الأساسيّة التي تم طرحها لرفض اعتماد سعر المنصّة لاستيفاء الرسوم والضرائب، كانت تفادي سيناريوهات التضخّم التي ستنتج عن رفع سعر صرف الإيرادات بشكل سريع. إلا أنّ وزارة الماليّة تدرك جيّدًا أنّ الغالبيّة الساحقة من المؤسسات التجاريّة تعتمد أساسًا سعر صرف السوق الموازية لتسعير السلع والخدمات، مع احتساب الضريبة وسائر الأكلاف التشغيليّة كنسبة من السعر بالدولار الأميركي، وهو ما يعني أن المستهلك يدفع أساسًا قيمة الرسوم بالدولار للتجّار، فيما يعمد التجّار إلى دفعها للدولة بالليرة وبسعر الصرف المنخفض. ببساطة، ما جرى من تكريس لتعدد أسعار الصرف في الموازنة لم يخدم سوى حلقة ضيّقة من كبار المستوردين والمتموّلين، المستفيدين من ضرب إيرادات الدولة.

السلطة النقديّة والمصارف وعرقلة المنصّة

كان من المفترض أن تكون منصّة صيرفة أداة أساسيّة من أدوات توحيد أسعار الصرف، من خلال عملها كوسيط في تداول الدولار، وتحديدها لسعر الصرف العائم والفعلي. إلا أن مصرف لبنان منذ البداية لم يضع أي آليّة واضحة لتحديد سعر الصرف الذي تعكسه المنصّة، كما لم يعمل على أي آليّة تجعل من المنصّة أداة للتداول الحر بالدولار النقدي في السوق. ولهذا السبب، ظلّت المنصّة مجرّد سعر صرف عبثي آخر، يحدده حاكم مصرف لبنان بشكل غامض، ويواكب سعر صرف السوق الموازية صعودًا ونزولًا، إنما مع الإبقاء على هامش كبير بين السعرين. وحتّى المصارف التجاريّة، لم تساهم منذ البداية بنجاح المنصّة، إذ ظلّت إجراءات التداول الخاصّة بدولارات المنصّة عبر الفروع المصرفيّة عشوائيّة وارتجاليّة، وخاضعة لاستنسابيّة غير مفهومة في ما يخص الفئات التي تستفيد منها.

في خلاصة الأمر، لا يزال سوق القطع اليوم محكومًا بظاهرة تعدد أسعار الصرف، مع كل ما يعنيه ذلك من إجحاف على مستوى إيرادات الدولة، وسعر الصرف المعتمد لسحوبات المودعين في المصارف، ومع كل ما يستتبع تعدد أسعار الصرف من تشوّهات اقتصاديّة وماليّة كان لبنان بغنى عنها. من الأكيد أن توحيد أسعار الصرف لم يكن منذ البداية نزهة سهلة، أو هدفًا سهل المنال، إذ يتطلّب ذلك سلسلة من القرارات المدروسة والمتكاملة، وغير الشعبيّة. لكن من الأكيد أيضًا أنّ السياسات الرسميّة، سواء من جانب مصرف لبنان أو من جانب الحكومة، لم تحاول حتّى الإقتراب من هذا الهدف.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةلبنان يخفض سعر الليرة لمواجهة اتساع أزمته المالية
المقالة القادمةعودة الكهرباء جزئياً إلى المناطق: أوهام الساعات العشر