نتج عن إعلان رئيس الحكومة السابق حسّان دياب قرار الدولة اللبنانية بتعليق دفع سندات «اليوروبوندز» للدائنين الدوليّين في آذار 2020، موجة من ردود الأفعال المتناقضة ما زالت تداعياتها مستمرّة حتى اليوم. وكانت الأزمة الاقتصادية والماليّة الخانقة قد أثرت بشكل كبير على تصنيف لبنان الائتماني أمام وكالات التصنيف الدوليّة التي بدأت تقرأ علامات التعثّر منذ العام 2016، في ظل غياب الثقة بأي خطة للإنقاذ وبجديّة الدولة بالتنفيذ. فتعليق سداد الدين كان يجب أن تتبعه تدابير جديّة ومنظّمة تؤمّن سلوك الطريق السليم نحو التفاوض حول إعادة هيكلة الدين، لكن دون جدوى فهذه الخطّة بقيت من دون تطبيق.
لولا القرار…
ولولا تعليق الدفع لبقيت الحكومة تواجه استحقاقات «يوروبوندز» بقيمة 700 مليون دولار في نيسان 2020، و600 مليون دولار في حزيران 2020، إضافة الى خدمة دين بقيمة 2.260 مليار دولار للعام 2020، أي ما مجموعه 4.760 مليارات دولار لعام 2020. أما لعام 2021 فكان يبلغ مجموع استحقاقات الدين وخدمته 4.683 مليارات دولار منهـا 2.091 مليــار دولار استحقـــاق «يوروبوندز» في نيسان 2021. كما كان على الحكومة في موازاة ذلك أيضاً ضرورة تأمين أكثر من 6 مليارات دولار سنوياً لتأمين استيراد المواد الأساسية (تغطية العجز في الحساب الجاري ونسبته أكثر من 25% من الناتج المحلّي).
أسباب القرار ومبرّراته
بعدما أصبح الدين أكبر من قدرة لبنان على تحمّله وأكبر من قدرة اللبنانيّين على تسديد فوائده كما عبّر الرئيس حسان دياب خلال إعلانه قرار تعليق السداد، باتت عمليّة الاستمرار بالدفع تشكّل خطراً على ما تبقّى من احتياطي المصرف المركزي من العملات الصعبة وبالتالي على ما تبقى من ودائع الناس.
في هذا الإطار أشار جان رياشي رئيس مجلس إدارة «I & C Bank» لـ»نداء الوطن» أنه «منذ العام 2016 لم تعد الدولة اللبنانية تملك إمكانية الاستحصال على دين من الأسواق العالميّة، حتى قبل أن تحصل الأزمة تمّ الإعتراف بأن لبنان أصبح دولة مفلسة وصولاً إلى استحقاق سندات «اليوروبوندز» (وقيمتها الاسمية الآن مع فوائدها حوالي 40 مليار دولار). فلو لجأت الدولة آنذاك إلى تسديد ودفع السندات المستحقة لكانت اضطرّت أن تدفع المبلغ من احتياطي مصرف لبنان».
وأضاف: «كان لا مفرّ من لجوء الدولة إلى خيار التوقّف عن الدفع. فالجدل هنا ليس على موضوع إمكانية أن ندفع من عدمها، إذ من الطبيعي أن لبنان لم يكن لديه الإمكانية للدفع. بل كان الهدف كيفية إعادة جدولة الدين. وأكثرية المستثمرين الأجانب وهم من غالبيّة حاملي السندات كانوا يريدون ويطالبون دوماً بهذا الإجراء. لذلك أصبح الجدل ليس على صوابية قرار التوقّف عن الدفع والتفاوض مع الدائنين على إعادة الهيكلة بل على الطريقة التي ستتم بها العملية وما سيتبعها من تدابير».
وبحسب الدكتور سامي عطالله مدير «مبادرة سياسات الغد»، فقد أكّد عبر « نداء الوطن» أن الأسباب الرئيسيّة تكمن في السياسة النقديّة المتّبعة منذ سنوات والتي كان على رأسها رياض سلامة. فهي التي أدّت إلى هذا الإفلاس وبالتالي إلى إجبار لبنان على عدم السداد. فحتى لو حصل الدفع، لم تكن لدى لبنان القدرة على دفع الدين الذي سوف يلي ويستحقّ».
وأكد «إن عملية عدم الدفع حصلت بشكل غير مكتمل. فهي لم تترافق مع خطة لمواجهة تداعيات هذا القرار، لأن حكومة حسان دياب التي قامت بهذه الخطوة لم تتحمّل مسؤولياتها الكاملة. بحيث تمّ وضع خطة «لازار» للبدء بالإصلاحات وسرعان ما عادت وتخلّت عنها لأسباب وضغوطات مختلفة. وهنا دخلنا مرحلة التعثّر غير المنظّم».
الأزمة سبقت القرار
إن القرار بتعليق السداد ليس هو سبب الأزمة، فهو أتى كنتيجة لها وكنتيجة لعدم إدارتها بالشكل الصحيح والمطلوب. واعتباراً من 2013 تفاقم العجز في ميزان المدفوعات، وفي العامين 2015 و2016 لم يستطع لبنان تسويق السندات في الأسواق الماليّة العالميّة، وتبعتها الهندسات المالية التي قام بها مصرف لبنان بسبب عجزه عن استقطاب الأموال من الخارج. إلى أن تجسّدت الأزمة في العام 2019، فمنذ ذلك الوقت بدأ الانهيار.
ويتابع عطالله «مجموع تلك السياسات هي سبب العجز، وهي التي أوصلتنا لما نحن عليه اليوم من تفاقم للأزمة. فلبنان مضطرّ لاستقطاب الأموال من الخارج لتمويل عجز الدولة وعجز المجتمع المتمثل خاصة بالعجز الحاصل بالتصدير، فهذا البلد يستورد أكثر مما يصدّر (فاتورة حوالي 20 ملياراً للاستيراد مقابل حوالي 4 مليارات للتصدير، فهناك إذاً حوالي 16 ملياراً فرقاً). فلبنان بحاجة إلى استقطاب الدولارات من الخارج من المغتربين ومن الخليجيين ومن المستثمرين لتغطية العجز. ليس دور المجتمع بل دور المسؤولين بالبنك المركزي والحكومة والوزراء لجهة كيفيّة التعامل مع هذه الأزمة وعدم ترك الأمور للفوضى. فجذور المشكلة تعود إلى التسعينات، فلو تمّ وضع سياسات ماليّة وقطاعيّة واقتصاديّة سليمة لما وصلنا إلى هذا العجز وإلى الحاجة الماسة للإقتراض من الخارج».
تداعيات القرار
بالنسبة إلى تداعيات هذا القرار، اعتبر رياشي أنها تتمثل بإفلاس البلد. «يعني أن أكبر الدائنين للدولة اللبنانيّة هم المودعون (فوق المئة مليار دولار) أكثر من حاملي سندات «اليوروبوندز» (حوالي 40 مليار دولار). بعدما تراكمت الأمور منذ العام 2016، حصل إشكال في البلد في العام 2019 حيث كانت هناك فجوة في مصرف لبنان تقدّر بنحو 50 مليار دولار هذا فضلاً عن أن الدولة مديونة وهي عاجزة عن الدفع».
ويضيف، «لهذا السبب لا يمكننا أن نأخذ موضوع «اليوروبوندز» لوحده بمعزل عن كل تلك الظروف. فالبلد وصل إلى الإفلاس وتعثر بسبب عدم توفّر المال. يعني ودائع الناس كانت في المصارف والمصارف أغلبية ودائعها موجودة في مصرف لبنان الذي كان يملك في 2016 تقريباً نصفها بين ذهب وإحتياطي. ثم تم صرف الإحتياطي وبقيت 10 مليارات دولار وبقي الذهب. فالدولة لو قرّرت آنذاك تسديد الدفع لكانت دفعت السندات من مصرف لبنان الذي لم يعد يملك هذا المال. فلو تمّ الدفع للدائنين الأجانب، لكانت الدولة قد حرمت المودعين أكثر من أموالهم. فالحل الأفضل كان الانطلاق بخطة التعافي العلميّة المنطقيّة وعدم التلاعب بهذا الموضوع، لكن توجد منظومة خرّبت البلد، منعت التفاوض ومنعت الخطط بسبب وجود مصالح كبيرة».
خطة «لازار» وضرورة التفاوض
يوضح رياشي أنّه «عند التوقف عن الدفع، كان لا بدّ للدولة اللبنانية الذهاب للتفاوض مع الدائنين الأجانب وحتى مع الدائنين اللبنانيين على إعادة الجدولة. وهذا التفاوض لا يتم إلا على أساس خطّة. لأن الدائن عندما يرى التعثر عند المقترض يطلب منه خطة توضح توقّعاته التي من المفترض أن يعمل على أساسها لتسديد الدين، حتى لو أنه على علم مسبق بأنّه سيقبل بتخفيض الدين وإعادة جدولته. بحيث سيقبل مثلاً بأن يتم إعطاؤه 30% أو50% من أصل الدّين على دفعات.» هذا الشيء الذي لم يحصل في لبنان، فلماذا لم يحصل؟
«لأنه عندما قامت الدولة اللبنانية باستقدام شركة «لازار» كان هدفها أساساً هو مفاوضة الدائنين الدوليين ووضع خطة. هذه الخطة قامت بتطييرها لجنة تقصي الحقائق وهي اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة المال والموازنة وذلك بذريعة ضعيفة متعلّقة بموضوع «احتساب الخسائر. اليوم وبعد ثلاث سنوات نرى أن هذا الجدل كان جدلاً كاذباً، لأن الخسائر مثلما تمّ تقديرها من قبل شركة «لازار» كانت صحيحة، ما يعني أنه كان هناك سوء نيّة من قبل لجنة تقصي الحقائق التي كان هدفها تطيير الخطة لمصالح معيّنة. في هذا الوقت، تم تخصيص الإحتياطي لصرفه على الدعم».
على من تقع المسؤوليّة؟
في هذا الإطار، إعتبر عطالله أن «من يتحمّل المسؤولية ليس فقط رياض سلامة ومصرف لبنان بل أيضاً حكومة حسان دياب التي قامت بخطوة ناقصة بتخليها عن خطة «لازار». كذلك فالمسؤولية تقع على عاتق المنظومة بكاملها لجهة إجهاض الخطة المذكورة ومن بينها المجلس النيابي ولجنة تقصي الحقائق والإعلام… فبالإضافة إلى سلوك مصرف لبنان والسياسات الماليّة فإن أسباب الأزمة تعود أيضاً إلى سلوك الحكومات المتعاقبة منذ العام 2011 منذ بدأت ملامح الأزمة تتشكّل. تخلّوا عن الخطة ودخل البلد في انهيار كامل».
لماذا حصل هذا الجدل؟
بحسب رياشي «كانوا يريدون أن يقولوا إن سبب الأزمة هو توقف الدولة عن الدفع بالوقت الذي يظهر جلياً وبكل وضوح أن الأزمة حصلت قبل ذلك. فالمصارف توقّفت عن الدفع في تشرين 2019 ولمّا أتى استحقاق «اليوروبوندز» في آذار 2020، قرّرت الدولة تعليق الدفع. لأنه في حال أرادت أن تدفع لكان الخيار الوحيد أمامها هو الدفع من مصرف لبنان يعني من ودائع الناس. وحصلت عمليّة ترويج ما بهدف صرف النظر عن ممارسات وإخفاقات مصرف لبنان والمصارف وذلك من خلال إلقاء اللّوم والعبء على شخص الرئيس حسان دياب الذي كان آنذاك قد بدأ تقريباً القيام باللازم لجهة استقدام شركة محاماة دولية للبدء بالمفاوضات، بحيث تبيّن من كل تلك الحملة أنها مجرّد عملية تسويقيّة بحتة». إذاً لقد نتج عن هذا القرار، دولة عاجزة عن السداد!
بين مؤيّد ومعارض
بحسب الدكتور عطالله، فإن معارضي قرار تعليق الدفع، كان تبريرهم أن لبنان بغنى عن أن يكون لديه نقطة سوداء في سجلّه لجهة تصنيفه بموقع العاجز عن الدفع، فسمعة لبنان الدولية سوف تتأثر. بالإضافة إلى أن البعض من هؤلاء لديه بالمباشر مصالح خاصة ويستفيد في حال تمّت عملية الدفع باعتبار أنه كان قد اشترى سندات. وقبل ذلك أي في شهر تشرين الثاني من العام 2019، كانت قامت حكومة الحريري بدفع المستحقّات المتوجّبة وتسديد قيمتها.
في المقابل يرى المؤيّدون للقرار أنه كان من الأفضل تخصيص المبلغ المتبقّي في مصرف لبنان لاستيراد الأدوية والمواد الغذائية والأساسية. فهناك مسؤولية مجتمع وبلد بكامله». فبين مؤيّد للقرار ورافض له، تنقسم الآراء حول أحقيّته من عدمها. إلّا أن المهمّ اليوم هو تبيان تداعيات وآثار هذا الإعلان وما تبعه من إجراءات ميدانيّة تركت انعكاسات مباشرة على الاقتصاد الوطني. فلو تمّ تسديد الدين ماذا كان حلّ بالبلد؟
الأزمة مكانك راوح!
إن مسألة عدم السداد لها شروطها الخاصّة المتمثلة بالسير بما يُسمّى بـ»التعثر المنظّم»، والذي يعني أن تعليق الدفع يجب أن يترافق مع خطة واضحة تهدف لإطلاق مفاوضات مباشرة مع الدائنين وصندوق النقد الدولي بشكل متوازٍ، كما والذهاب إلى برنامج إنقاذ يؤمّن الإصلاحات المطلوبة إن لجهة الـ»كابيتال كونترول» أو لجهة إعادة هيكلة المصارف وغيرها من الإصلاحات المطلوبة. فهذه الشروط لم تطبّق في لبنان الذي دخل بمرحلة من «التعثّر غير المنظّم» الأمر الذي زاد المشكلة تفاقماً وتعقيداً. فالأزمة حتى اللحظة مكانك راوح!
*رياشي: بداية التعثّر تعود إلى العام 2016، وفي تشرين 2019 إتّضح تعثّر المصارف
*لجنة تقصّي الحقائق المنبثقة عن لجنة المال والموازنة أدّت دوراً سلبياً وخلقت جدلاً كاذباً
*عطالله: كل أسباب الأزمة تكمن في السياسة النقدية التي طبّقها سلامة وقادت إلى الإفلاس
*حسان دياب وحكومته يتحمّلان مسؤولية التعثّر غير المنظّم والتخلّي عن تطبيق خطة لازار
جان رياشي:
– بداية التعثّر تعود إلى العام 2016… وفي تشرين 2019 إتّضح تعثّر المصارف
– لجنة تقصّي الحقائق المنبثقة عن لجنة المال والموازنة أدّت دوراً سلبياً وخلقت جدلاً كاذباً
سامي عطالله:
– كل أسباب الأزمة تكمن في السياسة النقدية التي طبّقها سلامة وقادت إلى الإفلاس
– حسان دياب وحكومته يتحمّلان مسؤولية التعثّر غير المنظّم والتخلّي عن تطبيق خطة لازار