مع مرور كل يوم، ينكشف المزيد من تفاصيل التعديلات التي يحاول رئيس الحكومة نجيب ميقاتي تمريرها داخل خطّة حكومته الماليّة، بضغط من جمعيّة المصارف واللوبي المساند لها داخل النظام السياسي. ميقاتي، يحاول في الوقت الراهن الضغط على نائبه سعادة الشامي، الذي يتولّى قيادة الوفد اللبناني المفاوض مع صندوق النقد، في محاولة لدفع الشامي باتجاه تبنّي هذه التعديلات، وطرحها أمام بعثة صندوق النقد. وجميع هذه التعديلات المقترحة، تدور حول فكرة واحدة: المزيد من الإجحاف والظلم بحق المجتمع (المال العام) وأصحاب الودائع الصغيرة والمتوسّطة (88% من المودعين)، والمزيد من الضمانات للنخبة الأثرى من المساهمين في المصارف. في النتيجة، لا يحتاج المرء إلى كثير من التحليل ليفهم أن المسألة باتت أسيرة معادلة واضحة: خسارة 73 مليار ثابتة ولن تتغيّر، وما يغيّره ميقاتي بتشجيع من المصارف هو كيفيّة توزيع الخسارة.
عمليًّا، تزداد الضغوط على الشامي ليقحم تعديلات ميقاتي وجمعيّة المصارف في أتون المحادثات مع صندوق النقد الدولي، من خلال البيانات والحملات الإعلاميّة المتكررة على الخطة الحكوميّة بصيغتها الحاليّة. ولهذا السبب بالتحديد، قد يكون من المفيد مراجعة التعديلات التي يريد إضافتها كل من ميقاتي وجمعيّة المصارف على الخطّة، لنفهم الوجهة التي دفع باتجاهها لوبي المصارف حين أعلن الحرب على الخطة بصيغتها الراهنة.
سرقة أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسّطة
تنص خطة الحكومة بصيغتها الراهنة على ضمان أموال كل مودع لأقصى حد ممكن، وهو ما سيكفل تسديد قيمة تتراوح بين 100 و150 ألف دولار لصاحب كل حساب مصرفي. في النتيجة، سيتم تسديد 88% من الحسابات المصرفيّة بشكل كامل، وهو ما يمثّل كامل أموال الودائع الصغيرة والمتوسّطة. أما الودائع الكبرى، فسيتم تقسيط جزء منها، وليلرة الجزء الآخر، وتحويل قسم آخر إلى رساميل، مع إمكانيّة تنفيذ عمليّات اقتصاص على بعض هذه الودائع (بعد تصنيفها).
التعديلات التي يريدها ميقاتي وجمعيّة المصارف تعكس هذا الاتجاه، من خلال تسديد أموال الودائع الصغيرة والمتوسّطة وفقًا لآليّة شبيهة بالتعميم 158، الذي ينص على سداد نصف قيمة الدفعات بالليرة اللبنانيّة، وبسعر صرف مجحف، مقابل سداد النصف الآخر بالدولار النقدي.
وفي مقابل تخفيض قيمة الدولارات التي سينالها أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسّطة، سيتم تحرير 10 مليار دولار من احتياطات مصرف لبنان، وضمها إلى “صندوق التعافي” المخصص لسداد الشريحة الأكبر من الودائع. وهكذا، بدل تحويل جزء من الودائع الكبيرة إلى رساميل وأسهم في المصارف، بعد شطب الرساميل الحاليّة، كما تنص الخطّة الراهنة، سيتم سداد هذا الجزء من أموال كبار المودعين من احتياطات مصرف لبنان عبر صندوق التعافي. أمّا الثمن، فسيدفعه أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسّطة من خلال نصف الدفعات التي سيتم تسديدها بالليرة وبسعر صرف مجحف، بدل سدادها بالدولار النقدي كما تنص الخطّة الراهنة.
كل هذه العمليّة ستكون للتملّص من سيناريو الـBail In الشامل، أي إعادة رسملة المصارف من الودائع بشكل كامل، بعد شطب الرساميل الحاليّة.
تخفيض شطب الرساميل إلى 30%
تنص خطّة الحكومة الحاليّة على شطب الرساميل المصرفيّة بشكل تام، بالإضافة إلى ودائع الأطراف ذات الصلة (أي ودائع أصحاب المصارف والمساهمين فيها)، قبل الانتقال إلى تحميل أي خسارة لأطراف أخرى. لكن، وفقًا للتعديلات المطروحة، سيتم نقل 30% من الرساميل المصرفيّة (الأسهم) فقط إلى صندوق التعافي، لتُستعمل في سبيل التعويض على كبار المودعين، من دون أن يتضح مصير سائر الرساميل والأسهم، أو كيفيّة إعادة رسملة القطاع من جديد. وهنا، ستستفيد المصارف من الـ10 مليار دولار التي سيقدمها مصرف لبنان إلى صندوق التعافي، لتفادي توسيع نطاق عمليّة إعادة الرسملة من الودائع.
نسبة المال العام بتحمّل الخسائر
حتّى اللحظة، لم يتم حسم النسبة التي سيتم تخصيصها من فوائض الموازنة السنويّة لتمويل الصندوق. إلا أنّ الترجيحات تشير إلى أنّ الصيغة التي سيدفع باتجاهها ميقاتي تقوم على تخصيص 50% من فوائض الميزانيّة العامّة السنويّة لتسديد إلتزامات الدولة لصندوق التعافي، الذي سيستعمل بدوره هذه الأموال لسداد إلتزامات المصارف لكبار المودعين (بعد نقلها من ميزانيّات المصارف إلى ميزانيّة الصندوق). وهذا الجزء من التعديلات، سيكون نقطة إشكاليّة كبرى بالنسبة إلى صندوق النقد الدولي، الذي ما زال يصر حتّى اللحظة على تفادي أي صيغة من صيغ استعمال المال العام لإطفاء الخسائر.
في خلاصة الأمر، تهاجم المصارف -ومَنْ خلفها- فكرة الاعتراف بخسائر الـ73 مليار دولار، باعتبارها شطباً للودائع، وتتلطى خلف هذه الفكرة بحجج قانونيّة لمواجهة الخطة الماليّة المطروحة من قبل الحكومة. لكنّ جميع التعديلات التي يحاول تمريرها ميقاتي اليوم، لإرضاء المصارف، لم تخرج حتّى اللحظة من دائرة التعامل مع هذه الخسائر بالتحديد، بل اتجهت إلى تغيير موازين توزّع هذه الخسائر، وتغيير الفئات التي ستتحمّلها.
باختصار، مشكلة جمعية المصارف الفعليّة ليست في تحديد هذا الرقم، كونها تُدرك أنّه خسارة محققة كأمر واقع. كل ما تريده جمعيّة المصارف هو إرجاء الاعتراف بهذه الخسارة في أي خطّة مطروحة، بحجة الحفاظ على الودائع، إلى حين التأكد من أن عمليّة توزيع الخسائر ستتناسب مع مصالحها. عندها، لن تملك جمعيّة المصارف أي تحفّظ على تحديد الخسارة ورميها على كاهل المودعين والمجتمع والمال العام.