عندما توجّه أحد المضمونين الى شركة التأمين لتوقيع عقد يضمن فيه الحالات الاستشفائية والطارئة، تلقّفه موظّف شركة التأمين بالترحيب، معلناً أن الحدّ الأقصى للتغطية 80 ألف دولار وتشمل كل الأمراض والعمليات الجراحية. استمرّت فترة تجديد تلك البوليصة لسنوات وتحديداً لفترة 12 عاماً قبل أن يقع المحظور ويصاب بحادث كبير استدعى دخوله الى المستشفى. وهناك بدأت رحلة المعارك مع شركة التأمين التي استثنت من التغطية أجهزة طبية مرتكزة على بند في البوليصة قابل للاجتهاد… وهكذا بدأت رحلة المريض غير القادر على مغادرة المستشفى بسبب عجزه الصحّي، وغير المُقتدر على تسديد الفاتورة الاستشفائية بسبب عجزه الماديّ. ولمّا ضاق أهل المريض ذرعاً بهذا الوضع بدأوا البحث عن حلّ لتهرّب شركة التأمين من الاستمرار بالتغطية خلال فترة إقامته في المستشفى. وبالصدفة وخلال بحث إلكتروني عن الجهة الوصيّة على القطاع، تمّ العثور على موقع للجنة رقابة على هيئات الضمان. تمّ تدوين الشكوى عبر الـ»واتسآب»، فاتّصل موظف من اللجنة، شكّل صلة الوصل بين المريض وإدارة شركة التأمين، وتمّ التوصّل خلال فترة يومين الى حلّ وتغطية كاملة طوال فترة إقامة المريض في المستشفى.
النهاية السعيدة
عناصر تلك القصة ليست واقعاً مستجدّاً بل يصادفها المرضى الذين يَنشدون الاستشفاء يومياً خلال تعاملاتهم مع شركات التأمين في لبنان، ولكن نهايتها «السعيدة» هي التي تبدو للوهلة الأولى «خرافية» للقارئ في وقت هي حقيقية، في بلد مثل لبنان غارق في الأزمات بعد أن نهشت المنظومة الحاكمة قطاعاته جرّاء الفساد وقلّة المراقبة وشبه انعدام المساءلة والمحاسبة.
حتى أن المُستغرب في القصّة أن تلك اللجنة التابعة لوزارة الاقتصاد والتجارة، تموّل من القطاع الخاص استناداً الى قانون تنظيم هيئات الضمان بقيمة 2 بالألف على كل بوليصة، وتحديداً من شركات التأمين أنفسها التي يتهرّب البعض منها ضمن الهامش المتاح لها من موجب التغطية، في وقت باتت تخشى مصيراً يشبه مصير القطاع المصرفي الإنحداري بعد الأزمة المالية والاقتصادية، وتحوّل جزء من أموالها الى «لولار» على غرار سائر القطاعات.
لجنة الرقابة على هيئات الضمان لم تنشأ حديثاً بل بموجب قانون تنظيم هيئات الضمان في المادة 47 وهي تتبع مباشرة لوزير الاقتصاد والتجارة. إلا أنها لم تكن فاعلة، فخلال فترة عام واحد استطاعت وزارة الاقتصاد أن تستند الى القانون لتفعيل دورها. فحقّقت نقلة في أداء عملها وأداء قطاع التأمين الذي كان وضعه مقلقاً خصوصاً منذ انطلاق شرارة الأزمة المالية وتبعها انفجار مرفأ بيروت بعد أشهر في آب 2020.
حصلت نقلة نوعية
لا رئيس حالياً معيّن لتلك اللجنة التي تضمّ اليوم نحو 17 موظفاً، بعد تنحّي الرئيس السابق وتحوّل الحكومة الى تصريف أعمال ما حال دون تعيين بديل عنه. لذلك يقوم وزير الاقتصاد بشكل مباشر بالإشراف على عملها وعلى الحلول المجترحة للقضايا التأمينية والشكاوى التي تتلقّاها كون وزارة الاقتصاد هي الوصيّة على قطاع التأمين.
«فخلال عام واحد» يقول وزير الاقتصاد والتجارة أمين سلام لـ»نداء الوطن» «حصلت نقلة نوعية في أداء اللجنة من صفر الى 75% خلال فترة سنة واحدة، فهي تتلقّى الشكاوى من المواطنين في القطاعات التأمينية كافة، من استشفاء الى حوادث سير، الى الأضرار الناجمة عن مرفأ بيروت والتي تشمل كل أنواع التأمين مثل الحياة والأضرار المادية للمحال التجارية والفنادق والمنازل والسيارات…».
وقال سلام «كان لدينا خياران في قطاع التأمين، إما تركه فيكون مصيره كالقطاع المصرفي، أو تطبيق قانون الرقابة عليه بـ»لطف» من دون اللجوء الى إقفال شركات أو سحب تراخيص. فهذا القطاع في ظلّ غياب الضمان الاجتماعي وسياسة وقائية للضمان من الدولة، يضمن أكثر من 600 ألف لبناني وأكثر من 250 ألف مصلحة وشركة ومؤسسة، الأمر الذي لا يستهان به. فكان من غير الجائز معالجة الخلل من دون التعاطي بدقّة مع هذا الملفّ. فلم يعد هناك سوى قطاع التأمين الخاص شبكة أمان لضمان صحّة اللبنانيين وأرزاقهم. لذلك أردنا حماية القطاع من خلال إجباره على الالتزام بالقوانين المطلوبة وتقديم تدقيق حسابات بالسنوات السابقة وتحديداً في انفجار مرفأ بيروت لمعرفة ماذا تقاضوا من معيدي التأمين وكيف سدّدت الشركات حقوق المتضرّرين».
80 محضر ضبط
أما محاسبة شركات التأمين المخالفة فتتمّ استناداً الى سلام، «من خلال محاضر ضبط سطّرتها وزارة الاقتصاد. فخلال فترة زمنية قصيرة لا تصل الى الشهرين أصدرنا أكثر من 80 محضر ضبط نتيجة مخالفات على شتّى أنواعها تتعلّق بتغطية المؤمّنين: رفع رأس المال، التزامهم بتقديم تقارير التدقيق، وتقارير دورية يجب إبرازها الى لجنة الرقابة لتبيان ملاءتهم المالية، والإدلاء بمعلومات عن العقارات التي لدى الشركات أو تبديل عقارات لم يعلنوا عنها للجنة الرقابة استناداً الى القانون. كما هناك محاضر ضبط تتعلّق باتخاذ قرارات مثل قرار الـ»ميدل إيست» في موضوع التأمين لدى شركات في الخارج من دون الرجوع الى لجنة الرقابة على هيئات الضمان.
ومحاضر الضبط عبارة عن غرامات مالية تتراوح بين 10 و20 وقد تصل الى 30 مليون ليرة عملاً بالقانون القديم، علماً أن اللجنة تعطي شركات التأمين مهلة لتسوية أوضاعها بشكل فوري وإصلاح الخلل». وحول مدى فعالية تلك الغرامة الرادعة، قال «الغرامة ليست بالمستوى الذي يجب أن تكون عليه لتوجّع الشركات. وقدّمنا طلباً في هذا المجال، لتعديل الغرامات كي تصبح رادعة للمخالفين». معتبراً أن التجاوب والالتزام السريع من شركات التأمين، شكّلا مفاجأة لوزارة الاقتصاد إذ أعربت الشركات عن استعدادها للتعاون مع ما يتوجّب من إجراءات تصحيحية لتسوية أوضاعها».
المتضرّرون من إنفجار المرفأ
وأكد أن وزارة الاقتصاد من خلال اللجنة «منعت شركات التأمين من تسديد تغطيات بوالص التأمين على الحياة، ما حال دون وقوع «مُصيبة» لمتضرّري انفجار المرفأ، إذ كانت شركات التأمين تتّخذ قرارات مجحفة واستغلالية وغير دقيقة من دون محاكاة ما يسمّى بسلوكيات قطاع التأمين في تسديد التزاماتها المالية تجاه المؤمّنين المتضرّرين.
فمن غير الجائز أن تسدّد شركات التأمين على سبيل المثال نسبة 20% فقط من حقّ المضمون، لذلك منعنا الشركات من الاستمرار في تسديد مستلزمات التغطية التأمينية وإجراء تسويات مجحفة مع المتضرّر، كل تلك التدابير التي اتّخذتها الوزارة التزمت بها الشركات من دون أي تصادم بين الفريقين». ماذا حصل بالتغطيات التأمينية لمتضرّري المرفأ؟ يقول سلام: «في ظلّ عدم صدور تقرير رسمي نهائي يحدّد أسباب الإنفجار وطبيعة الجرم يمكن لمعيدي التأمين عدم تسديد مترتّباتها، علماً أن بعض المعيدين سدّدوا التغطية التأمينية المترتبة عليهم لشركات التأمين، مع الإشارة الى أن هناك متاجر كبيرة وفنادق على خطّ البحر اندثرت بأكملها.
في هذا السياق، تعمل لجنة الرقابة اليوم على التأكّد من خلال الفواتير المسلّمة للمتضررين من أن تلك الشركات سدّدت الأموال المترتبة عليها للمتضرّرين كما يجب، علماً أن تسويات كبيرة تزامنت معها ورضي بها أصحاب الشأن لحاجتهم ربّما للمال، الأمر الذي رفضت الوزارة الإستمرار به على هذا المنوال، لذلك في المرحلة المقبلة سيطبق القانون بحذافيره، إذ يجب الدفع للمتضرّر حسب القيمة التي تقاضتها شركة التأمين من المعيد، فتعطي صاحب الحقّ حقّه لآخر «فرنك». أما التسويات فيجب أن تحاكي أصول سلوكيات قطاع التأمين والتي هي منطقية كأن تدفع شركة التأمين على سبيل المثال لا الحصر نسبة نقداً بحدّها الأقصى وهو 70% من حقّ المضمون وليس الأدنى 30%. فإذا كان يحقّ للمتضرّر من الانفجار مبلغ 100 ألف دولار نتيجة تهدّم منزله، لا يمكن تسليمه 10 آلاف دولار والتوقيع على تنازل عن 90 ألف دولار.
إنتظام التقارير الرقابية
كيف يوصف قطاع التأمين اليوم؟ يشير سلام الى «انتظام كامل بالتقارير التي تصدر عن شركات التأمين بشكل دوري، كل 3 أشهر تصل الى اللجنة تقارير تدقيق عن شركات التأمين من شركات معتمدة. وبدورها تقوم لجنة الرقابة على هيئات الضمان بإجراء تدقيق بدورها إذا كانت لديها شكوك حول مسألة معينة. ويتكوّن فريق العمل المدقّق الذي سيخرج بتقرير بدوره من أفراد من لجنة الرقابة وقد تتمّ الإستعانة في ملفات معينة بخبراء في التأمين والتدقيق من الخارج، وذلك بتمويل من موازنة اللجنة استناداً الى قانون تنظيم هيئات الضمان».
إعادة الرسملة
هل أعادت الشركات ترميم رأسمالها؟ وبالنسبة الى رأس المال المترتّب على كل شركة تأمين توفيره، فهو يبلغ كما جاء في القانون مليوناً ونصف المليون دولار، وفقاً لسعر صرف 1500 ليرة. أعدّت وزارة الاقتصاد استناداً الى سلام «برنامجاً ترميمياً لشركات التأمين لرفع رأسمالها، ومحاكاة ارتفاع سعر صرف الدولار وتفادياً للانهيار، ليعود الى ما كان عليه بالدولار النقدي تدريجياً علماً أن أموالها عالقة في المصارف و»حالتها حالة»، فارتفع رأسمال شركات التأمين تدريجياً وتمّ ضربه بـ 10 مرّات ليصل اليوم الى 22 مليار ليرة. على كل شركات التأمين الالتزام بتوفير رأس المال الجديد، وفي حال العكس نتخذ إجراءات بسحب التراخيص أو تعليقها، ولكن نحاول قدر الإمكان مراعاة الأمور بلطف كي لا ينهار القطاع، من خلال رفع رأس المال بشكل تدريجي، حتى تتمتع شركات التأمين بالملاءة المالية من عقارات وأصول وأموال سليمة لتغطية البوالص التي باعتها في السوق باعتبارها الضمانة في التغطية».
لفت أمين سلام الى «ضرورة إلزام لجنة الرقابة على شركات التأمين باعتماد معايير مالية دولية معينة، الأمر الذي فعّلته اللجنة حالياً وهي معايير دولية تحمل اسم IFRS تحدّد إطار عمل الشركات المالي وتحديداً الرقابة، أي آلية العمل وكيف تقدّم تقاريرها وكيف تقوم بالتدقيق… وتمّ تدريب فريق عمل لجنة الرقابة على مراقبة الشركات استناداً الى تلك المعايير. وأقامت اللجنة حملة بالإعلام تبيّن موجبات المؤمّن وموجبات شركات التأمين تجاه بعضهما البعض، وسنقوم بورش عمل خلال أشهر في مركز اللجنة ندعو اليها شركات التأمين والوسطاء».
ما الهدف من ورش العمل تلك؟ لتفعيل دور لجنة الرقابة على هيئات التأمين بشكل أكبر ولتحسين أداء الشركات، ستقيم وزارة الاقتصاد «من خلال لجنة الرقابة، ورش العمل تلك التي ستكون توعوية دورية لقطاع التأمين والوسيط التأميني الذي يتعاطى مباشرة مع المؤمّن. تبدأ بمجموعة ورش عمل في الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2024، وسيتمّ تدريب الوسيط على ضرورة إطلاع المؤمّن على كافة بنود العقد، وإمكانية رفع شكوى في حال تقاعست شركة التأمين عن أداء التزاماتها تجاهه، أمام لجنة الرقابة على هيئات الضمان، على أن يصار الى توثيق تقارير توعية وإرشاد تصدر كل 3 أشهر على سبيل المثال، لمعرفة أين أصبح قطاع التأمين وكيف يتحرّك».