تحت عنوان “حرب غزّة: نتائج أوليّة حول الأثر الاجتماعيّ والاقتصاديّ والبيئيّ على لبنان”، أطلق برنامج الأمم المتحدة الإنمائيّ “UNDP”، عصر امس الثلاثاء 19 كانون الأوّل الجاري، ومن مقرّ البرنامج الرئيسيّ في منطقة سنّ الفيل؛ تقريرًا شاملًا، يُقدم تحليلًا أوليًّا لآثار الحرب على قطاع غزّة المحاصر، والعواقب التّي قد تترتب جراء استمرار الاعتداءات هذه. وقد لحظ التّقرير مغبة استمرار التّوتر الحدوديّ جنوبي لبنان، وتداعياته على القطاعات الاقتصاديّة والبيئيّة اللّبنانيّة، فضلًا عن الوضع الاجتماعيّ، بعد ثلاثة أشهر من اشتعال الجبهة الجنوبيّة، حيث واجهت 91 قريّة في النبطيّة وسائر الجنوب 1,768 هجومًا، أدّى إلى نزوح ما يقارب 64 ألف شخص (52 بالمئة منهم إناث، 37 بالمئة أطفال)، ناهيك بالأضرار الماديّة الجسيمة للمساكن والشركات والأصول (السّيارات، أدوات الإنتاج.. إلخ) والبنى التحتيّة.
التّقرير ونتائجه الأوليّة
والتّقرير المؤلف من 18 صفحة، يستند إلى منهجية بحث علميّة مُحدّدة، تتضمن استعراضًا للبيانات الرسميّة والتّغطيات الصحافيّة (فيما تمّ إرفاق بيانات تصويريّة تفاعليّة “إنفوجرافيكس”)، وتوقعات علميّة للآثار المُحتملة، مبنيّة على التّقييمات السّابقة التّي أظهرت الآثار الاجتماعيّة والاقتصاديّة الوخيمة لحرب غزّة على البلدان العربيّة المجاورة والمنخرطة.
وأشارت UNDP إلى كون التّقييم الحاليّ هو استعراض للبيانات المتاحة، تكمله مقابلات غير رسميّة مع أصحاب المصلحة الرئيسيين، وإلى البيانات الأوليّة التّي جمعها فريق البرنامج الإنمائي. ويأتي ذلك بعد إطلاق تقريرين مشتركين بين برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والإسكوا: “الآثار الاجتماعية والاقتصادية المتوقعة لحرب غزة على البلدان المجاورة في منطقة الدول العربية” و “حرب غزة: الآثار الاجتماعية والاقتصادية المتوقعة على دولة فلسطين”.
وفي المؤتمر الصحافيّ الذي عقده البرنامج، بحضور شخصياتٍ رسميّة وحقوقيّة، أشار مدير المكتب الإقليميّ للدول العربيّة في البرنامج، عبدالله الدردري، إلى الحاجة المُلّحة لاتخاذ تدابير فوريّة تزيد قدرة الصمود الاجتماعيّ والاقتصاديّ في غزّة ولبنان وسائر البلدان العربيّة والأراضي الفلسطينيّة المُحتلة. بينما أكدّ أن الاستجابة الإنمائيّة للأزمة المستجدّة ترتبط تمام الارتباط، بالتنفيذ الفعليّ للإصلاحات التّي من شأنها النهوض بالاقتصاد اللّبنانيّ.
وبعد تحليل البيانات ودراستها، وضمن النتائج الأوليّة للبحث، تمّ التّوصل إلى حقيقتين هامتين، ارتكز التقرير عليهما في توقعه باستئناف الاقتصاد اللّبنانيّ اتجاهه الانكماشي المُطرّد:
أوّلًا: الضرّر الكبير الذي نزل بكل من قطاع السّياحة والخدمات والزراعة، والذي فاقم بدوره الأزمة التّي طاولت سُبل العيش واقتصاد المناطق الحدوديّة المحليّ.
ثانيًّا: الأثر البيئيّ الجسيم، الذي سببه النزاع، والذي من شأنه التّسبب بضرّر كبير وتهديدات طويلة الأجل، على البشر والموارد الطبيعيّة.
قطاعيّ السّياحة والخدمات
أظهر التّقرير، مؤشرات لانخفاض الناتج المحليّ ومعدلات البطالة منذ بداية الصراع، المقرون بتدهور عائدات كل من قطاع السّياحة والخدمات، والذي يظهر جليًّا مع انخفاض أعداد المسافرين وتضاؤل الطلب على خدمات الضيافة مثل الفنادق والمطاعم وباقي المرافق الخدماتيّة. إذ خلال شهر تشرين الأوّل الماضي وحده، سجلت مديريّة الطيران المدنيّ اللّبنانيّ عددًا من المغادرين أكثر من عدد الوافدين وانخفاضًا بنسبة 15 بالمئة في تدفق الركاب مقارنة بشهر تشرين الأوّل 2022.
بينما، انخفضت معدلات إشغال الفنادق في لبنان إلى أقلّ من 10 في المئة بسبب المغادرة المبكرة للزوار والسّياح الأجانب وإلغاء الرحلات خلال الفترة نفسها. فيما شهد نشاط المطاعم في جميع أنحاء البلاد، في الأسبوع الأوّل من تشرين الأوّل الماضيّ انخفاضًا يصلّ إلى 80 بالمئة بأعماله خلال أيام الأسبوع وانخفاضا بنسبة 30-50 في المئة في عطلات نهاية الأسبوع بعد بدء النزاع.
التّدفقات الماليّة
وحسب التّقرير، فإن هناك خطراً إضافيّاً يتمثل في تعطل التّدفقات والتّحويلات الماليّة، مما يضاعف طرّديًّا من التّحديات التّي تطال الوضع الماليّ، في بيئة مصرفيّة مُختلة أساسًا. ففي عام 2022، سجّل لبنان أعلى نسبة تحويلات إلى الناتج المحليّ الإجماليّ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث بلغت 37.8% من الناتج المحلّي الإجماليّ أو ما يصل إلى 7 مليارات دولار أميركي سنويًّا. فيما يصل حاليًّا أكثر من 70% من رأس المال هذا إلى البلاد من خلال قنوات غير رسميّة مثل الأفراد الذين يحملون الأموال النقديّة عبر الحدود. وتوقع البحث أن انخفاض تدفق الركاب سيؤثر سلبًا على تدفق التحويلات المالية، والتي توفر شبكة أمان اجتماعيّ أساسيّة لشريحة واسعة من السكّان.
ومن جهة أخرى، وإذ تشكل الرسوم المفروضة على التجارة الدوليةّ، بما في ذلك الجمارك وضريبة القيمة المضافة، أكثر من 60 في المئة من إجماليّ الإيرادات الضريبيّة؛ فإنّ تعطّل الواردات سيعرّض للخطر جهود الحكومة الحثيثة لاستعادة التوازن الماليّ وسيشكل مزيدًا من المخاطر على الانتعاش الاقتصاديّ المرجوّ في لبنان.
الأثر الزراعيّ والمناخيّ
ولحظ التّقييم الأوليّ، التأثيرات البيئيّة مسلّطًا الضوء على العواقب الوخيمة لاستمرار النزاع التّي دفعت فاتورتها المساحات الطبيعيّة، من المناطق المحميّة، مرورًا بالغابات والمراعيّ والمسطحات المائيّة، وصولًا لنوعيّة الهواء والتّربة. وقد ألحقت المواجهات وعمليات القصف أضراراً كبيرة بالأراضي الزراعية، بما في ذلك التدهور المادي، والتلوث الكيميائي، والتلوث من المخلفات المتفجرة، مما أدى إلى فقدان خصوبة التربة. وقد أدى استخدام القصف الفوسفوريّ إلى تلوث المحاصيل والمياه السطحية والجوفية، مما يشكل تهديدات للماشية وصحة الإنسان. بالإضافة إلى ذلك، ضربت الحرائق مناطق زراعية مختلفة، مما أثر على بساتين الزيتون ومزارع الحمضيات ومزارع الموز وأراضي المراعي. واعتبر التّقرير أن هناك حاجة إلى المزيد من البحث لتقييم التأثير الكامل.
ضرورة اتخاذ إصلاحات عاجلة
وخُتِمَ التّقرير، بتوقع انكماش الاقتصاد بصورةٍ أكبر، بغض النظر عن سيناريوهات الحرب؛ وقد اعتبر أن هذا الانكماش، وإلى جانب التّأخير في تنفيذ أجندة الإصلاحات الشاملة، سيعرقل الفرص بالانتعاش الاقتصاديّ العام، عارضًا السّبل المحتملة للمضي قدمًا من أجل استجابة سريعة بعد الحرب ومحدّدًا الخطوات الفوريّة التي يتعين اتخاذها، كالتّالي:
– التّحديث المستمر لأثر النزاع والتحضير لمزيد من التقييمات المتعمقة لإثراء تصميم خطة الاستجابة والإنعاش، وبالتّالي تحقيق الأهداف الثلاثة الأساسيّة، وهي: المساعدة الإنسانيّة وبناء السّلام والتّنمية طويلة الأجل.
– إعادة برمجة الأنشطة لمعالجة الآثار المترتبة على الأزمة وحماية سبل العيش، في حالة استمرار الصراع، مع إعطاء الأولوية للمبادرات المجتمعيّة، وإنشاء الروابط وسلاسل القيمة، والنقد مقابل العمل للنازحين داخليًّا.
– إرساء الأساس لأنشطة مستنيرة ومبرمجة، في مرحلة ما بعد الصراع، بما في ذلك خلق فرص العمل، وتنمية الأعمال التجاريّة، ودعم الدخل للمزارعين لاستئناف أنشطتهم، والحصول على التمويل والاستثمارات في الهياكل الأساسيّة لتحفيز الانتعاش الاقتصاديّ المستدام.
– التّخطيط لإجراء تقييم بيئي متعمق.
– إعطاء الأولوية للاعتبارات البيئيّة مثل استراتيجيات الإنعاش بما في ذلك إعادة التحريج، والدعوة ضدّ القنابل الفوسفوريّة المحظورة
– تنفيذ تدابير لحماية الثروة الحيوانيّة، مع الاعتراف بدورها الهام في الاقتصاد المحليّ وُسبل العيش.