يُصدر معهد التمويل الدولي تقريره حول لبنان الاثنين (اليوم) تحت عنوان: لبنان: مخاطر غرق الـ»تيتانيك» Lebanon: Risks of the Sinking Titanic والذي يتضمن توقعات وتقديرات كبير الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد التمويل الدولي د. غربيس إيراديان للوضع الاقتصادي والمالي في لبنان، في اطار سيناريوَين محتملين للمرحلة المقبلة.
كبير الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد التمويل الدولي د. غربيس إيراديان
وكان معهد التمويل الدولي نظم مؤتمراً افتراضياً حول لبنان جمع أعضاء المعهد مع خبراء محليين ودوليين لمناقشة الأزمة السياسية والاقتصادية والمالية المستمرة والإصلاحات اللازمة لوضع الاقتصاد على طريق الانتعاش المستدام. وكان من بين المشاركين نائب رئيس الوزراء سعادة الشامي، وعدد من المسؤولين اللبنانيين السابقين في صندوق النقد الدولي، ومديرون تنفيذيون وكبار الاقتصاديين في عدد من البنوك اللبنانية والمؤسسات المالية العالمية. يلخص تقرير المعهد وجهات نظرهم بالإضافة إلى تلك التي عبّر عنها بعض الحاضرين الذين زاد عددهم على 80 مشاركاً.
ورأى أن الأمل الوحيد في مواجهة الأزمة الاقتصادية والمالية الحالية هو من خلال تنفيذ برنامج تعديل وإصلاح شامل بمساعدة صندوق النقد والبنك الدوليين.
وأكد تقرير معهد التمويل الدولي اختلاف وجهات النظر حول كيفية توزيع الخسائر المالية المقدرة بـ 70 مليار دولار (أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي عام 2022)، شكل عائقاً إضافياً امام التوصل إلى اتفاق حول أجندة إصلاح شاملة. واشار الى امكانية استخدام الأصول المملوكة للدولة والعقارات العامة كأحد الخيارات لتسديد ودائع الحسابات المملوكة من قبل الفئات الفقيرة والمتوسطة الدخل.
ومن أبرز التوقعات التي تضمنها تقرير معهد التمويل الدولي نمو الناتج المحلي الاجمالي الاسمي بنسبة 5,3 في المئة في العام 2024 ليصل 37.3 مليار دولار في حال حصول السيناريو المتفائل، او انكماشه بنسبة – 1 في المئة الى 18,7 مليار دولار في حال حصول السيناريو المتشائم. كما توقع ان يبلغ معدل التضخم المتفائل 32,8 في المئة في 2024 او 203,5 في المئة في حالة التشاؤم. اما سعر الصرف فقد يبلغ 55300 ليرة في حالة السيناريو المتفائل اي عند توحيد اسعار الصرف، او قد يصل الى 286000 ليرة في العام 2024 في حالة السيناريو المتشائم والى 650 ألف ليرة في 2025 وصولاً الى مليون و600 ألف ليرة في 2026.
وفي ما يلي نص المقابلة:
– ما هي المعوّقات السياسية التي يواجهها لبنان لتنفيذ الإصلاحات الملحّة؟
أشار المشاركون في مؤتمرنا الافتراضي إلى أن النظام السياسي الحالي في لبنان لم يرضخ لحل أزمة بهذا الحجم. كانت غالبية النخبة السياسية في حالة إنكار ولا تزال مهتمة في الغالب بمصالحها الضيقة بدلاً من رفاهية الشعب اللبناني.
لا يزال النظام السياسي اللبناني، بانقساماته الطائفية، يشكل عقبة كبيرة أمام الإصلاحات الاقتصادية. يمكن تحميل النظام القائم على تقاسم السلطة مسؤولية الشلل الحكومي والفساد المستشري. لقد سلب اتفاق الطائف منذ العام 1990 السلطة التنفيذية القوية التي كان يتمتع بها موقع رئاسة الجمهورية ( 1943-1989 )، وأعطى سلطة صنع القرار الى مجلس الوزراء بينما توقف مصرف لبنان عن ممارسة استقلاليته.
ونتيجة لذلك، أصبحت السلطة السياسية مجزأة ومشتتة بين مختلف الجهات الفاعلة. ظهرت طبقة الأوليغارشية القوية التي استفادت من الفوضى والضعف الحكومي. يتخطى الأوليغارشيون الاختلافات المذهبية، ويبدو أنهم يتمتعون بالفعل بتعاطف من المؤسسات الدينية. أصبح الفراغ السياسي هو القاعدة في لبنان. وفي النتيجة، عانى لبنان من شلل في العقود الثلاثة الماضية، بسبب النظام السياسي المعيب الذي انبثق عن اتفاق الطائف.
– كيف تصف الوضع الاقتصادي الراهن وما رأيك بالإجراءات المتخذة؟
لقد مرت أكثر من ثلاث سنوات على بداية الأزمة اللبنانية، ومع ذلك لم يتم إجراء أي إصلاحات ذات جدوى. بدلاً من ذلك، تم اعتماد سياسات أدّت الى نتائج عكسية فاقمت الأزمة الاقتصادية والمالية الأساسية وولّدت أبعاداً كارثية مع عواقب إنسانية مأسوية. انخفض الناتج المحلي الإجمالي الاسمي من 54 مليار دولار في عام 2018 إلى ما يقدّر بـ 19 مليار دولار في عام 2022. تقلص الناتج بنسبة تراكمية قدرها 45% منذ عام 2018، مما أثر بشكل كارثي على الطبقة الفقيرة في لبنان، وأدى الى تقلص الطبقة الوسطى، فأصبح أكثر من 40% من السكان الآن تحت خط الفقر. تشير التقديرات التقريبية إلى أن حوالى 250 ألف شخص، معظمهم من الشباب والموهوبين (يمثلون 7% من اللبنانيين) غادروا في السنوات الثلاث الماضية بحثاً عن فرص أفضل في الخارج.
لم يحرز اي تقدم ملحوظ بالنسبة لتطبيق في الإجراءات المسبقة لصندوق النقد الدولي. كانت معظم النخبة السياسية في حالة إنكار ولا تزال مهتمة في الغالب بمصالحها الضيقة بدلاً من رفاهية الشعب اللبناني. تعتبر الطبقة الحاكمة ان تنفيذ الإجراءات المسبقة لصندوق النقد الدولي بمثابة تهديد لمكاسبهم غير المشروعة وتقويض لقاعدتهم السياسية. بالاضافة الى ذلك، فان العلاقة بين السياسيين ومجموعات المصالح الخاصة في القطاع الخاص كانت عائقاً رئيسياً أمام الإصلاحات.
– هل ما زال بالامكان إنقاذ الاقتصاد اللبناني؟
الإجابة المختصرة هي نعم، وسيعتمد ذلك على الإصلاحات السياسية والإرادة القوية للبدء في تنفيذ برنامج إصلاح شامل وموثوق به على المدى المتوسط، بدعم من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لإعادة الاستقرار المالي ومعالجة الاسباب الجوهرية ووضع الاقتصاد على طريق الانتعاش. ومع ذلك، هناك شرطان مسبقان حاسمان للتنفيذ الناجح للبرنامج:
1 – إنتخاب رئيس إصلاحي وتعيين رئيس وزراء إصلاحي وحكومة مؤلفة من وزراء كفوئين غير حزبيين، تركز على تطبيق الإصلاحات المطلوبة للمضي قدماً دون أن يصبح مجلس الوزراء ساحة معركة للقضايا السياسية.
2 – وحدة في القيادة: بموجب اتفاق الطائف، يتحمل كل من رئيس الوزراء أو مجلس الوزراء المسؤولية التنفيذية، ولكن يمكن أن يعيق رئيس الجمهورية أو مجلس النواب عمل الحكومة. كما يمكن لمجلس الوزراء والبرلمان عرقلة القرارات التي يتخذها الرئيس. وبالتالي، من أجل تنفيذ الإصلاحات، من الضروري ان تكون القيادة موحّدة. وهذا الامر قابل للتطبيق من خلال منح مجلس الوزراء «صلاحيات استثنائية» لإجراء إصلاحات خلال فترة محددة.
– ما هي الاصلاحات الرئيسية التي يجب اعتمادها؟
ينبغي تنفيذ جميع الإجراءات المسبقة لصندوق النقد الدولي:
– توحيد أسعار الصرف المتعددة يزيل التشوه في سوق العملات الأجنبية. أدت أسعار الصرف المتعددة إلى حدوث تشوهات وفتحت باب المضاربات. وبالتالي، بات ملحّاً توحيد جميع الأسعار في أسرع وقت ممكن، على ان يتم اعتماد نظام سعر الصرف العائم. بالاضافة الى ذلك، سيعزز سعر الصرف الموحد أيضاً التنافسية والشفافية، وسيزيل التشوهات في الاقتصاد والتي خلقتها الممارسات المرتبطة بتعدد الاسعار. كما انه سيقلص من أنشطة البحث عن الربح غير المشروع التي تزيد بدورها من مخاطر الفساد. يمكن تثبيت سعر الصرف الموحد أو حتى تعزيزه من خلال سياسات مالية ونقدية سليمة.
– من دون تدقيق في حسابات مصرف لبنان وفي ديون الدولة التي تكبدتها وزارة المالية، لا يمكن تكوين بيانات مالية صحيحة يمكن الاعتماد عليها لتحديد إطار اقتصادي كلي هادف متوسط المدى.
– تحتاج البنوك إلى اجراء تدقيق شامل في حساباتها لتحديد المصارف التي تتمتع بالملاءة المالية الكافية لسداد متوجباتها، والمصارف التي لا تتمتع بتلك الملاءة. تمّ اتباع هذا النهج من قبل العديد من السلطات القضائية خلال الأزمة المالية العالمية. يجب توحيد أصول والتزامات البنوك السيئة، وبيع جميع الأصول المتبقية بالمزاد للحدّ من خسائر المودعين. يمكن أن تؤدي مثل هذه العملية إلى إنشاء نظام مصرفي أصغر حجمًا وأكثر كفاءة.
– تعزيز الأنظمة الاحترازية والرقابة على مستوى البنك المركزي وهيئة الرقابة المصرفية والبنوك التجارية.
– من المؤسف أن الحكومة لم تفرض ضوابط على رأس المال في بداية الأزمة، تاركة قرار فرض قيود على رأس المال للمصارف. مما أدى إلى فرض سياسات غير متّسقة وفقدان الثقة بالقطاع المصرفي.
– يحتاج لبنان بشكل عاجل إلى إصلاح قطاع الكهرباء والاتصالات والمياه وأنظمة الموانئ والكيانات الأخرى المملوكة للدولة. هناك حاجة إلى الخصخصة وتنظيم أقوى لمثل هذه المرافق.
– إن اعتماد نظام شامل للحماية الاجتماعية وإنشاءه أمر ضروري لحماية أكثر شرائح السكان ضعفاً.
– أدرجت في تقريرك توقعات حول المؤشرات الاقتصادية في إطار سيناريوَين مختلفين. ما هما؟
بالنظر إلى حالة عدم اليقين والآفاق غير الواضحة، أعددت سيناريوَين قابلين للتحقق:
– السيناريو المتفائل (احتمال ضعيف): قد تتوصل النخبة السياسية إلى تسوية استثنائية تسمح بانتخاب رئيس مؤيد للإصلاح، وتشكيل حكومة ذات توجه إصلاحي، وتعيين حاكم جديد في مصرف لبنان يكون مستقلاً وكفوءاً، بحلول تموز. يمهد هذا السيناريو الطريق أمام تنفيذ الإجراءات المسبقة التي تليها موافقة صندوق النقد الدولي على ترتيبات تسهيل الصندوق الممدد EFF قبل نهاية أيلول، مما يسمح بالحصول على التمويل الخارجي الكافي من المجتمع الدولي.
في مثل هذا السيناريو، تكون الوصفة لمستقبل أكثر إشراقاً واضحة وفي متناول اليد، حيث يتمتع لبنان بالعديد من المقومات الضرورية للنجاح، بما في ذلك القدرة البشرية النابضة بالحياة وريادة الأعمال والتي لا يمكن إنكارها. يمكن للناتج المحلي الإجمالي بالدولار الأميركي أن يستعيد مستوى العام 2018 بحلول العام 2026. وسيكون النمو السريع المتوقع في هذا السيناريو مدفوعاً بصافي الصادرات والاستثمار العام.
سيتم توحيد أسعار الصرف المتعددة في بداية البرنامج مع صندوق النقد الدولي، وسيتم اعتماد نظام سعر الصرف العائم. يمكن أن تتراجع الضغوط التضخمية إلى رقمين في عام 2024 ورقم واحد في عام 2025، مدعومة بالارتفاع المتوقع لسعر الصرف الموحد. سيتقلص عجز الحساب الجاري إلى حوالى 6% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2026 على افتراض حدوث تحسن في العلاقة مع دول مجلس التعاون الخليجي، بما في ذلك رفع الحصار عن الصادرات اللبنانية، وتعاف أقوى في صادرات السلع وعائدات السياحة. كما سيتحسن الرصيد الأولي للمالية العامة، مع زيادة الإيرادات بشكل كبير عند استخدام سعر الصرف الموحد للرسوم الجمركية. يمكن لبرنامج محتمل لصندوق النقد الدولي أن يضع الدين العام المرتفع للغاية في لبنان على مسار هبوطي ثابت من خلال تنفيذ الإجراءات المالية وإعادة الهيكلة.
– السيناريو المتشائم (احتمال كبير): ستواصل السلطات عرقلة الإصلاحات. ونتيجة لذلك، لن يكون هناك اتفاق على برنامج اقتصادي يدعمه صندوق النقد، ولن يتم الحصول على اي دعم مالي من المجتمع الدولي. سوف يستأنف سعر صرف الليرة الموازي انخفاضه السريع، وسيظل التضخم في ثلاثة أرقام، وسيستمر الركود الاقتصادي بنسبة نمو تقلّ عن 1%، وسيظل الناتج المحلي الإجمالي الاسمي بالدولار الأميركي أقل من 23 مليار دولار خلال السنوات الأربع المقبلة. سيظل عجز الحساب الجاري كبيراً، وستنخفض احتياطيات النقد الأجنبي أكثر إلى أقل من مليار دولار بحلول نهاية عام 2026. في هذا السيناريو المتشائم، ستبقى معظم الودائع غير قابلة للاستخدام، وقد يتفكك لبنان أو، مثل سفينة الـ»تيتانيك»، يصطدم بجبل الجليد مع تدهور الظروف الاقتصادية والاجتماعية إلى حدّ إثارة حرب أهلية لا تحمد عقباها.