في ظل التسارع المستمر للاستثمارات المرتبطة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، والمنافسة الشديدة بين كبرى الشركات العالمية على تحويل تلك التقنيات إلى أدوات وتطبيقات قابلة للاستخدام الشخصي والتجاري، يبدو أن القطاع الصحي بات بالفعل أحد أوائل القطاعات المستفيدة من هذا التقدم؛ فلم يعد الأمر مجرد عملية تخمين، بل تحول إلى مجال شديد الدقة والتعقيد.
حقق الذكاء الاصطناعي تقدما كبيرا في المجال الصحي حيث مكنت التقنيات من تسهيل معالجة إشكاليات كثيرة تتعلق بملء استمارات التسجيل ونشوب الخصومات في مكاتب الاستقبال، فضلا عن تطوير منظومة الرعاية الصحية بكيفية أكثر فاعلية ونجاعة للكشف عن الأمراض، إضافة إلى تطور الروبوتات التي باتت تقوم بالعمليات الجراحية والتشخيص الدقيق.
خلال السنوات الأخيرة الماضية أحرز الذكاء الاصطناعي تقدما كبيرا، حيث تبدي المؤشرات أنه وصل بالفعل إلى مرحلة تمكنه من تقديم حلول حقيقية لمشاكل الرعاية الصحية، الأمر الذي ينبئ بثورة طبية على القواعد القديمة السائدة.
وتتمحور قضايا تقنيات الذكاء الاصطناعي أساسا حول محاكاة القدرات البشرية مثل التفكير المنطقي والتعلم، وحول مسألة ما إذا كان يتفوق في قدرته على تحليل البيانات الضخمة والتوصل إلى استنتاجات علمية دقيقة خلال فترات قياسية.
وتتعدد استخدامات الذكاء الاصطناعي في قطاع الرعاية الصحية، بدءاً من التشخيص وتطوير العقاقير وصولا إلى إدارة سير العمل بالمستشفيات. ولعل أبرز خدمات الذكاء الاصطناعي للقطاع الطبي تتلخص في خمس استخدامات.
التشخيص واكتشاف الأمراض
ورصد تقرير صادر عن موقع “أم.أي.تي ريفيو” المختص في التقنيات هذه الاستخدامات، حيث حقق الذكاء الاصطناعي في الآونة الأخيرة تقدماً ملحوظاً في مجال اكتشاف الأمراض في مراحلها المبكرة. على سبيل المثال، ذكرت ورقة علمية نُشرت العام الماضي أن أحد أنظمة التعلم العميق تمكّن من تشخيص سرطان المريء بدقة تبلغ نسبتها 98 في المئة، مع أن تشخيص هذا النوع من السرطان صعب نسبياً، ويتم في الكثير من الأحيان في مرحلة متقدمة عندما تضيع فرصة تلقي العلاج الفعال.
كما تستخدم العديد من التطبيقات والأدوات القابلة للارتداء تقنيات ذكاء اصطناعي ترصد اضطرابات المؤشرات الحيوية للجسم، ويُمكنها التنبؤ باحتمالية وقوع أزمة صحية قبل حدوثها. وقد طورت منصة كير بريديكت الأميركية أداة قابلة للارتداء تتتبع حتى التغيرات البسيطة في الأنماط السلوكية لكبار السن والتي تسبق السقوط وسوء التغذية والاكتئاب، كما يمكنها إرسال إشارات استغاثة سريعة عند الحاجة.
ويعتمد مجال الطب الدقيق على تحديد العقار الأكثر فاعلية للمرضى بناء على تكوينهم الجيني ونمط حياتهم واختلاف استجابتهم للعقاقير. وفي هذا الإطار، تثبت الدراسات وجود تأثير إيجابي واضح عندما يتكامل عمل الأطباء مع الذكاء الاصطناعي بهدف تمهيد الطريق أمام الطب الدقيق، حيث يمكن لتقنيات التعلم العميق تحليل البيانات الجينية لأعداد كبيرة من الأفراد، وتحديد التباين الفردي في الاستجابة للعقاقير، ودعم اتخاذ القرارات السريرية في الزمن الفعلي، وبالتالي تقديم توصيات حول أنسب العقاقير لكل شخص.
وخلال السنوات الأخيرة تزايدت المشروعات التي تقوم على جمع بيانات صحية ضخمة وتحليلها باستخدام الذكاء الاصطناعي، بهدف تطوير مجال الطب الدقيق، فبالإضافة إلى مشروع “البنك الحيوي البريطاني” ومشروع “نموذج رقمي منك” في الصين، أطلقت الولايات المتحدة في 2019 مشروع “جميعنا” الذي يهدف إلى تسجيل مليون فرد، حيث قدم المشاركون مجموعة ضخمة من المعلومات، تشمل السجلات الصحية، والبيانات الجينية، بالإضافة إلى البيانات التي تسجلها أجهزة تتبع الأنشطة الشخصية.
روبوتات الجراحة
الروبوتات هي أكثر الآلات إثارة للخيال في عالم الذكاء الاصطناعي، وعلى الرغم من أن الحديث عن إجراء الروبوتات للجراحة قد يبدو سابقا لأوانه باعتبار أن ذلك يتحقق في المستقبل البعيد، إلا أن الخيال أصبح حقيقة واقعة، ففي عام 2017 اجتاز روبوت صيني امتحان مزاولة المهنة في البلاد باستخدام قدرات الذكاء الاصطناعي فقط. وفي شهر فبراير الماضي، استطاع الروبوت الجراحي فيرسيوس -الذي صنعته شركة التكنولوجيا الطبية البريطانية “سي.مي.أر سيرجيكال”، والمجهز بعدة أذرع يمكنها مساعدة الجراحين في غرف العمليات- أن يُجري أولى عملياته الجراحية الدقيقة في تخصص جراحات القولون والمستقيم.
بدورها، أعلنت المؤسسة الكورية للاتصالات “كي.تي كوربورشيون”، في يناير الماضي، أنها طوّرت بالشراكة مع مركز سامسونغ الطبي مبادرة لإطلاق خدمة طبية مبتكرة، في خطوة أولية لإنشاء مستشفى يقوم على شبكات الجيل الخامس. وتتضمن الخدمة الجديدة الاعتماد على روبوتات توصيل في غرف العمليات لإحضار مستلزمات الجراحة وإزالة المواد الملوثة والنفايات الطبية.
كما أعلنت عن نظام ذكاء اصطناعي جديد يُسمى “سمارت كير جيفر” سيمكّن المرضى من التحكم في غرفهم داخل المستشفى بواسطة الأوامر الصوتية، وفحص حالتهم الصحية، وبالتالي يُمكّن الطاقم الطبي من الاستجابة بكفاءة أكبر للحالات الطارئة.
إحدى المشكلات المزمنة التي تواجه قطاع الرعاية الصحية -حتى في أكثر الدول تقدماً- هي اكتظاظ المراكز الطبية والمستشفيات، والضغوط التي يعاني منها الأطباء والممرضون؛ ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، كشفت دراسة أُجريت عام 2016 أن 96 في المئة من شكاوى المرضى تدور حول الارتباك في ملء استمارات التسجيل والتجارب السيئة في مكاتب الاستقبال. لذا، فإن عدداً من التطبيقات والأنظمة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي حاولت إيجاد حلول لهذه المشكلات.
أحد هذه الأنظمة هو “أوليف”، الذي تم تصميمه بشكل خاص لأتمتة المهام المتكررة في قطاع الرعاية الصحية، مثل فهرسة وثائق التأمين وتقديم طلبات العلاج، بحيث يترك الفرصة للعاملين من أجل التركيز على المهام الأكثر تعقيداً، وتقديم خدمة أفضل للمرضى. وأفادت تقارير منشورة الشهر الماضي بأن نحو 600 مستشفى بالولايات المتحدة باتت تعتمد على هذا النظام في أتمتة أعمال أقسام الموارد البشرية والتمويل وسلاسل التوريد.
وتستخدم بعض تلك الأنظمة الذكاء الاصطناعي في إدخال البيانات وإجراء التحاليل والأشعة السينية وغيرها من المهام الأساسية. كما يُستخدم أحياناً لتحليل أنظمة الرعاية الصحية بأكملها؛ فعلى سبيل المثال، بلغت نسبة فواتير الرعاية الصحية الرقمية في هولندا 97 في المئة من إجمالي الفواتير الطبية عام 2017.
ونظراً إلى أنها تحتوي على البيانات الخاصة بالعلاج والطبيب والمستشفى، تستعين شركة “زورجبريزما بوبليك” الهولندية بنظام “آي بي إم واتسون” لتحليلها، بهدف معرفة ما إذا كان الطبيب أو العيادة أو المستشفى يرتكبون أخطاء متكررة في علاج نوع معين من الحالات أم لا، وتحديد أسباب عدم كفاءة سير العمل، بل حتى المساعدة في التقليل من الزيارات غير الضرورية للمستشفيات.
كشف السرطان
وخلال عام 2019 عمل الباحثون في جامعة نورث وسترن في إلينوي بالولايات المتحدة -بالتعاون مع غوغل والعديد من المراكز الطبية- على دراسة البيانات المستخدمة بموافقة الآلاف من مرضى السرطان وتحديد ما إذا كان تشخيص الأجهزة مماثلا لما توصل إليه الأطباء أم هو أفضل وأكثر دقة.
ولا تزال هذه التقنية قيد التطور وهي غير جاهزة للاستخدام على نطاق واسع، لكن التقرير الجديد الذي نُشر في مجلة “نايتشر مديسين” ونقلته صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، يقدم لمحة عن مستقبل الذكاء الاصطناعي في الطب.
ويعتبر التعرف على الأنماط وتفسير الصور -وهما من المهارات التي يستخدمها البشر لقراءة شرائح المجهر والأشعة السينية والرنين المغناطيسي وغيرها من عمليات الفحص الطبي- من أبرز المجالات العلمية الواعدة.
ويمكن للباحثين تدريب أجهزة الكمبيوتر على التعرف على الأنماط المرتبطة بحالة معينة، مثل الالتهاب الرئوي أو السرطان أو كسر في المعصم يصعب على الشخص رؤيته، وذلك من خلال جمع كميات هائلة من البيانات التي يتيحها التصوير الطبي ونقلها إلى أنظمة تسمى “الشبكات العصبية الاصطناعية”. ومن ثمة يتبع النظام خوارزمية أو مجموعة من الإرشادات والمعلومات وكلما كانت كمية البيانات أكبر صار التفسير أيسر.
هذه العملية، المعروفة بالتعلم العميق، تستخدم بالفعل في العديد من التطبيقات، مثل تمكين أجهزة الكمبيوتر من فهم الكلام وتحديد الأشياء، بحيث تتعرف سيارة ذاتية القيادة على علامة توقف وتُميّز بين أحد المشاة وعمود الهاتف. في مجال الطب، أنشأت شركة غوغل بالفعل أنظمة لمساعدة أخصائيي الأمراض على قراءة شرائح المجهر لتشخيص السرطان، ولمساعدة أطباء العيون على اكتشاف أمراض العين لدى مرضى السكري.
في الدراسة الجديدة طبق الباحثون الذكاء الاصطناعي على فحوصات الأشعة المقطعية المستخدمة لفحص الأشخاص بحثا عن سرطان الرئة الذي تسبب في وفاة 160 ألف شخص في الولايات المتحدة العام الماضي وفي وفاة 1.7 مليون شخص في مختلف أنحاء العالم. وتمت التوصية باعتماد فحوصات الأشعة في حالات الأشخاص المعرضين لخطر محدق بسبب تعاطيهم التدخين مدة طويلة.
لقد وجدت الدراسات أن الفحص يمكن أن يقلل من خطر الوفاة بسبب سرطان الرئة. وبالإضافة إلى العثور على سرطانات محددة، يمكن للمسح أيضًا أن يحدد البقع التي قد تصبح فيما بعد سرطانًا، بحيث يمكن لأخصائيي الأشعة فرز المرضى وتقسيمهم إلى مجموعات متباينة من حيث درجة التعرض للخطر، وتحديد ما إذا كانوا بحاجة إلى فحص نسيج الجلد أو القيام بفحوصات مستمرة لتتبع المناطق التي من المحتمل ان تتعرض للإصابة. لكن الباحثين يرون أن اختبار الأشعة لا يخلو من العيوب، فقد يعجز عن رصد الأورام أو يخطئ في تشخيص البقع الحميدة بسبب الأورام الخبيثة ويدفع المرضى إلى الإجراءات المحفوفة بالمخاطر مثل فحوصات النسيج الجلدي للرئة أو الجراحة. وقد تكون لدى علماء الأشعة الذين ينظرون إلى المسح نفسه آراء مختلفة بشأن هذا الموضوع.
اعتقد الباحثون أن أجهزة الكمبيوتر قد تعمل بشكل أفضل، فأنشأوا شبكة ثرية بالبيانات مع مجموعة من المعلومات عن المراحل العلاجية المتعددة ودربوها عن طريق إعطائها كمية من فحوصات الأشعة المقطعية من المرضى الذين كانت تشخيصاتهم معروفة، وكان بعضهم مصابا بسرطان الرئة والبعض الآخر سليما، وكانت للبقية عُقَيْدات تحولت إلى سرطان. ثم بدأ الباحثون يختبرون مهارة الأجهزة.
قال الدكتور تسي إن “عملية التجريب برمتها تشبه التلميذ في المدرسة”، فـ“نحن نستخدم مجموعة كبيرة من البيانات للتدريب ونمنحها دروسًا واختبارات منبثقة حتى يتسنى لها الشروع في معرفة ما هو السرطان وما الذي سيكون أو لا يكون سرطانًا في المستقبل. لقد قدمنا لها اختبارًا نهائيًا على البيانات التي لم نرها أبدًا بعد أن قضينا الكثير من الوقت في التدريب، والنتيجة التي رأيناها في الامتحان النهائي كانت جيدة”.
تم اختبار حوالي 6716 حالة ذات تشخيصات معروفة وكانت دقة الجهاز تصل إلى نسبة 94 في المئة. ومقارنة بستة من أخصائيي الأشعة، ورغم عدم وجود أي فحص مسبق متاح، تمكن نموذج التعلم المعمّق من التغلب على الأطباء، فقد كان عدد أخطائه أقلّ. قد تتيح القدرة على معالجة كميات هائلة من البيانات للذكاء الاصطناعي إمكانية التعرف على الأنماط الدقيقة التي لا يستطيع البشر رؤيتها بيسر.
ورغم أن أسلوب المحاكاة قد استخدم سابقا في ميدان الطب، إلا أنه لم يقدم النتائج المرجوة، ولعل السبب يعود إلى استناده على دمى تقليدية من المطاط لا روح فيها، ولا تمثل بيئة مثالية لارتكاب الأخطاء والتعلم منها، وذلك يحول دون تطوير الطلاب ومقدمي الرعاية الصحية لمهاراتهم.
ولكن، مع التقدم في علم الروبوت وقوة الحوسبة، اكتست أجهزة المحاكاة التقليدية خصائص بشرية، فهي الآن تحاكي فسيولوجيا جسم الإنسان بدقة عالية، وقادرة على التنفس، ولديها نبضات وعلامات حيوية يمكن قياسها، وتلك الميزات كفيلة بجعل محاكاة المرضى الحقيقيين تبدو أكثر واقعية.
وكلما تطورت التكنولوجيا زادت إسهامات المحاكاة الطبية في معالجة نقاط الضعف التي تكتنف النظم الصحية، وإعطاء القطاع الدفعة التي يحتاجها في اتجاه تطوير المهارات، وحسم المشاكل المحيطة بسلامة المرضى.
الاختبارات والتجارب العلمية
يوضح تحليل حديث أن الأسباب الرئيسية لفشل ما يصل إلى 88 في المئة من تجارب تطوير العقاقير في الولايات المتحدة هي نقص الأموال أو انقطاع المشاركين عن الاستمرار في التجارب أو الفشل في تجنيد ما يكفي من المتطوعين؛ لذا فقد اتجه الباحثون إلى استخدام البيانات التي تجمعها تقنيات الذكاء الاصطناعي من السجلات الصحية الإلكترونية والأجهزة القابلة للارتداء، إذ يمكنها توفير المليارات من الدولارات، كما أنها تملك كميات كبيرة من البيانات التي يُمكن تحليلها. علاوة على ذلك، تسمح هذه التقنيات للخوارزميات بالبحث في التقارير الطبية عن الأشخاص المؤهلين للمشاركة في التجارب السريرية.
وفي سياق آخر، استخدم باحثون خوارزمية تعلم عميق تُسمى “اكسترام غرادينت بوستينغ” لاستكشاف طرق جديدة لمواجهة “البكتيريا الخارقة”، وهي الأنواع المقاومة لمعظم أو كل المضادات الحيوية، حيث تمكنت تلك الخوارزمية من تحديد قدرة سلالات البكتيريا على مقاومة العقاقير بدقة وصلت إلى 95 في المئة.
يبقى أن نقول إنه مع التقدم التكنولوجي الهائل وتطوير المزيد من التقنيات الأكثر ذكاء، يخشى الكثيرون -بمَن فيهم العاملون في مجال الرعاية الصحية- أن تفتكّ منهم الروبوتات وأنظمة الذكاء الاصطناعي وظائفهم، إلا أن المؤشرات الحالية تُنبئ بشكل واضح أن التكامل بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي هو الطريق الأمثل لتحقيق الثورة القادمة في القطاع الصحي.