من المرتقب أن يشهد لبنان خلال شهر آذار الحالي زيارة بعثة البند الرابع في صندوق النقد الدولي، قبل نحو شهر واحد من مرور سنة كاملة على توقيع الاتفاق على مستوى الموظفين بين لبنان والصندوق.
الود المفقود بين الصندوق والنخبة المصرفيّة اللبنانيّة
في العادة، تشكّل تقارير البعثة الرابعة مناسبة لتقييم انتظام الأوضاع النقديّة المحليّة، واستدامة وملاءة القطاع المالي وماليّة الدولة. لكن في حالة لبنان، لن تملك بعثة الصندوق أكثر من تقييم تقدّم لبنان في تنفيذ الإصلاحات المتفق عليها في إطار الاتفاق على مستوى الموظفين، والتي يفترض أن يتم استكمالها للانتقال إلى مرحلة الاتفاق النهائي بين لبنان والصندوق.
لا يُخفى على أحد غياب الود بين المصارف ومصرف لبنان من جهة، والاتجاهات التي تدفع نحوها أجندات صندوق النقد وسائر المؤسسات الدوليّة من جهة أخرى، فيما يبدو من الواضح أن مراكز القرار المالي الغربيّة تبنّت منذ بدايات الأزمة الأولويّات والمعايير الماليّة التي يتبنّاها الصندوق.
لكن هذه المرّة، تتراكم المعطيات التي تشير إلى أنّ تقييم الصندوق لدور المصرف المركزي والمصارف سيتأثّر كثيرًا بتطورين أساسيين: خطوة تلاعب مصرف لبنان بأرقام الدين العام خلال الشهر الماضي، والتمرّد المصرفي على تعديلات قانون السريّة المصرفيّة. وهذه الحقيقة، تؤكّدها مجموعة من الاتصالات الدبلوماسيّة الغربيّة، التي حاولت جمع بعض المعطيات عن الملفين، لمواكبة جولة الصندوق وتقييمه الذي سينتج عنها. وجميع هذه الاتصالات حذّرت المعنيين من خطورة الدور الذي يلعبه القطاع المصرفي اليوم، بما يشمل أداء المصرف المركزي والمصارف التجاريّة معًا. كما حذّرت من مستقبل القطاع المالي ومصيره في حال المضي بهذا النوع من الأداء.
التلاعب بميزانيّات المصرف المركزي
كما بات معلومًا، قرّر حاكم مصرف لبنان خلال الشهر الماضي التلاعب بالميزانيّة النصف شهريّة التي ينشرها المصرف، عبر إضافة دين على الدولة يستحق لمصلحة المصرف، بقيمة 16.5 مليار دولار (راجع المدن). هذه اللعبة، لن تمرّ مرور الكرام في تقرير صندوق النقد، خصوصًا أنّها ستعني ببساطة العبث والتلاعب بحجم الخسائر المصرفيّة المتراكمة في ميزانيّات القطاع (بما يشمل مصرف لبنان والمصارف معًا)، مقابل إلقاء كتلة مماثلة من الخسائر على كاهل الميزانيّة العامّة اللبنانيّة، ولعقود من الزمن. وبهذه الخطوة، يكون مصرف لبنان قد عاد مجددًا إلى ألاعيب العام 2020، حين قاد –مع لوبي المصارف في المجلس النيابي- الانقلاب الشهير على تقديرات شركة لازارد لخسائره وخسائر المصارف التجاريّة.
في جميع الحالات، من المعلوم أن تقدير حجم الخسائر –بواقعيّة وبشكل واضح- مثّل الركن الأساسي في خطّة التعافي الحكومي الأخيرة، والتي تم على أساسها توقيع الاتفاق على مستوى الموظفين بين لبنان والصندوق. والعبث بهذه التقديرات، على هذا النحو الغريب، لن يؤدّي إلى أقل من الإطاحة بأساسيّات الخطّة.
مع الإشارة إلى أنّ مصادر مواكبة لمفاوضات لبنان مع صندوق النقد تشير إلى أنّ حاكم مصرف لبنان حاول منذ حصول الانهيار تسويق “لعبة الـ16.5 مليار دولار” والزج بها في معادلات توزيع الخسائر، قبل أن يُواجه بطلب التخلّي عن هذا النوع من “الهرطقات المحاسبيّة الغريبة”، من قبل وفد التفاوض اللبناني وبعثة الصندوق على حد سواء. كما تشير هذه المصادر إلى أنّ بعثات الصندوق المتتالية، التي زارت لبنان في مراحل سابقة، أبدت رأيًا سلبيًا وواضحًا للغاية تجاه هذه الفكرة بالتحديد، بالإضافة إلى جميع الأفكار الأخرى التي حاول من خلالها سلامة التحايل للتلاعب بحجم الخسائر التي سيتم التعامل معها.
ببساطة، تشير هذه المصادر إلى أنّ الأيّام المقبلة ستؤكّد أنّ سلامة سيسمع من وفد الصندوق رأيًا صريحًا بخصوص هذا النوع المناورات، التي تم وصفها في مراحل سابقة من المفاوضات بعبارة: “الحيل غير النظيفة”. أمّا في دوائر القرار المالي التي تتابع ملف لبنان في أوروبا، فسيزيد ما يجري من السخط الذي يلحق بالحاكم، بعدما تراكمت في ملفّه الدلائل على الدور السلبي الذي لعبه في عرقلة الحلول الماليّة المطروحة، وتحديدًا تلك التي اندرجت من ضمن مسار الاتفاق مع صندوق النقد.
المصارف التجاريّة المارقة
لا يبدي صندوق النقد الكثير من الاهتمام بالملفّات القضائيّة الداخليّة، ومنها تلك المرتبطة بقضيّة قروض 9 مليار دولار التي تحقق فيها القاضية غادة عون. فهذا النوع من التحقيقات، تُعتبر بنظر الصندوق مسألة محاسبة جنائيّة، تخضع للسيادة اللبنانيّة حصرًا.
لكنّ صندوق النقد يجد نفسه معنيًّا بطريقة تطبيق تعديلات قانون سريّة المصارف، التي اشترطها من ضمن التفاهم على مستوى الموظفين مع لبنان. بل في واقع الأمر، يمثّل هذا الشرط الإنجاز الوحيد التي يزعم لبنان تحقيقه، بالرغم من الثغرات الكبيرة والألغام التي انطوت عليها هذه التعديلات.
هكذا، ستكون جمعيّة المصارف قد وضعت –من خلال تمرّدها على مبدأ رفع السريّة المصرفيّة لصالح القضاء- لغمًا جديدًا يفرغ القانون من أهدافه الأساسيّة، خصوصًا إذا تمكنت الجمعيّة من تكريس فكرة عدم تطبيق القانون بمفعول رجعي، ما سيمنع القضاء من الآن فصاعدًا من الاطلاع على أي سجلّات مصرفيّة يسبق تاريخها تاريخ إقرار القانون.
وتجدر الإشارة إلى أنّ تطبيق القانون على كل الداتا المصرفيّة، من دون اشتراط عدم رجعيّة القانون، مثّل أحد النقاط التي ركّزت عليها مذكرّة صندوق النقد التقييميّة الأخيرة، ما يشير بوضوح إلى اهتمام الصندوق بهذا الجانب من تعديلات قانون سريّة المصارف.
وإذا كان المجتمع الدولي قد بات يرى لبنان ماليًا بعدسات صندوق النقد، فمن الأكيد اليوم أن ما جرى خلال الأسابيع الثلاثة الماضية سيسهّل وصم المصارف اللبنانيّة دوليًا بصفة “المصارف المارقة”، خصوصًا إذا ما لحظ صندوق النقد في تقييمه المرتقب التواطؤ السياسي الذي جرى لحماية هذا التمرّد المصرفي. ومن هذه الزاوية بالتحديد، ثمّة الكثير من الآراء التي باتت تشير إلى أنّ ما يجري سيدفع فعلًا باتجاه العزلة الماليّة الدوليّة، لكن ليس بفعل التحقيقات القضائيّة وادعاء النيابة العامّة الاستئنافيّة في جبل لبنان، بل بفعل التموضع الخطير الذي اتخذته جمعيّة المصارف مؤخرًا.
في جميع الحالات، من المرتقب أن يصدر بعد الزيارة التقرير التقييمي، وهو ما سيؤكّد أو ينفي كل هذه التكهّنات بخصوص موقف صندوق النقد المرتقب. لكن الأهم اليوم، هو طبيعة المأزق المالي الخطير الذي ستتجه إليه البلاد، في حال أصرّت المنظومة السياسيّة والنخبة المصرفيّة بالمضي بعيدًا في نهج السقوط الاقتصادي الحر، بعد أن يُنعى رسميًا الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. ففي هذه الحالة، لن يرى لبنان –لعقود مقبلة- غير ما رآه اللبنانيون خلال السنوات الثلاث الماضية.