غداً ينقضي نحو شهر على تأكيد ديون المحاسبة على عدم تعارض تعديل جداول الأسعار الواقعية لشركة بريد لبنان «ليبان بوست»، مع توصياته بتحسين موقع الدولة من العقد الموقع معها، والذي تضمّن توصية أساسية بالكف عن هدر الوقت، والذهاب مباشرة لوضع دفتر شروط مزايدة جديدة لقطاع البريد. كما أنه يكون قد مضى نحو شهر ونصف على تكرار الديوان للموقف تجاه دراسة الجدوى التي أصرّ عليها في رفضه لنتائج المزايدة الثالثة التي رست على ائتلاف Colis Privé France و»ميريت انفست»، وتحميله وزارة الإتصالات مسؤولية تحديد العناصر المطلوبة من هذه الدراسة. ويبدو أنّ المراوحة لا تزال سيدة الموقف في هذا الملف المفتوح على إحتمالات تأجيل دائمة، وهو ما يعزز الشكوك حول خلفيات مبيّتة أبقت ولا تزال تبقي القطاع رهينة مشغّله منذ أكثر من 26 عاماً «ليبان بوست».
فبحسب وزير الإتصالات جوني القرم لم يتم حتى الآن التوصل إلى إتفاق على تعديل جداول الأسعار، كما أنه لم تلح إمكانية لتعديل شروط العقد معها، إذ إن أي تعديل بشروط العقد برأيه يحتاج إلى رضى الطرفين، وهذا العنصر مفقود بظل عدم موافقة «ليبان بوست»، التي تُعتبر حالياً في موقع تسيير المرفق العام.
ومن وجهة نظر الشركة، كما ينقلها القرم، «إن الخدمات التي ستضاف إلى العقد ستحتاج إلى وضع مزيد من الإستثمارات. وبالتالي يجب أن يكون التعديل مقروناً بإعطائها الوقت لإستعادة هذه الإستثمارات»، معرباً عن قناعته بأنه «إذا أقرن هذا التعديل بالتمديد لليبان بوست لمدة أربع سنوات الآن، فهي قد توافق على هذه التعديلات. ولكن نحن لسنا بصدد التمديد لها بعد اليوم، ونريد أن نسترد القطاع فور إتمام عملية التلزيم الجديدة». وإذ يقر مجدداً بأنّ العقد مجحف بحق الدولة، يشير إلى «أن المفاوضات جارية حالياً لتعديل بعض الأسعار وشروط العقد مع ليبان بوست، إلا أنها لم تثمر بعد». أثير هذا الموضوع في الأسبوع الماضي خلال جلسة لجنة الإتصالات النيابية بغياب الوزير القرم، إثر زيادات تفاجأ بها مواطنون على بعض الرسوم التي تتقاضاها «ليبان بوست». ليتبين أن هذه الزيادات غير مرتبطة بالواردات التي يفترض بالشركة أن تتقاسمها مع الدولة. فحاولت وزارة الإتصالات حسم الجدل من خلال بيان صدر عنها، أكد عدم إتخاذ أي قرار بتعديل أسعار الخدمات البريدية، ولفت إلى أنّ أي تعديل في هذا الإطار، يخضع لموافقة مجلس شورى الدولة ومجلس الوزراء، واضعاً الزيادات التي ظهرت على بعض الإيصالات في إطار إرتفاع كلفة بعض الخدمات الذي بات ساري المفعول إبتداءً من صدور قانون الموزانة الجديد في الجريدة الرسمية. ولكن هذه ليست كل الحقيقة.
فـ»ليبان بوست» حصلت على إمتيازات بخدمات جديدة أضيفت إلى مهماتها منذ سنة 1997، من دون أن تدرج في عقدها الأساسي الموقع مع الدولة، وهذا ما جعلها طيلة الفترة الماضية تتمتع بمزايا تأمين مداخيل جانبية، لا تدخل في إطار تصفية الحسابات مع الدولة وخزينتها. وعليه تبدو مرتاحة لرفع بعض رسومها من دون الحاجة لموافقة مجلس الوزراء او مجلس شورى الدولة، بما يؤمن الأرباح والمداخيل الصافية لجيبها.
كان يفترض بناء لتقرير صدر عن ديوان المحاسبة منذ العام 2021، أن يجري تحسين موقع الدولة من هذه الخدمات، ليشملها مبدأ تقاسم الواردات، وهذا ما لم يحصل منذ ذلك الحين. يحمّل القرم المسؤولية في ذلك إلى الحكومة، مشيراً إلى أنه قبل إطلاق عملية التلزيم الجديدة للقطاع توجه إلى المجلس بقرار رقمه 386 وينص على إتفاق شامل مع الشركة على تعديل العقد، مع إقرانه بشرط إطالة فترة إدارتها للقطاع نحو ثمانية أعوام. إلا أن المجلس رفض، وفضل السير بعملية تلزيم جديدة.
منذ ذلك الحين لم تناقش الوزارة تعديل شروط العقد، إلى أن ضمّن مجلس الوزراء قراره الأخير بإجراء مزايدة جديدة للقطاع بـ»تعديل جداول أسعار الخدمات البريدية الواقعية». وهذا ما اعتبره القرم أنه يتناقض مع توصيات ديوان المحاسبة الصادرة في تقريره المذكور. إلا أن الأهم من إبراز ديوان المحاسبة عدم وجود مثل هذا التناقض، كان في تشديده على ضرورة السير بعملية تلزيم جديدة للقطاع من دون أي مماطلة. وهنا أيضاً يبدو أننا لا نزال نراوح مكاننا.
بعد التوجه إلى ديوان المحاسبة بكتاب يطلب تحديد العناصر اللازمة لدراسة الجدوى الإقتصادية المطلوبة، قبل إعادة إطلاق مزايدة البريد الرابعة، ورد الديوان عليه أن ذلك يعتبر من مسؤوليات الوزارة والوزير، يحدد الوزير القرم العائق بعدم توفر الأموال، وبالتالي الحاجة لمن يتبرع بهذه الدراسة مجاناً، مشيراً إلى أنّ هذه الدراسة تحتاج إلى دفتر شروط لإجرائها وإلى مناقصة وتوفر إعتمادات لم تلحظ من ضمن الموازنة. وبعد أن يذكّر بأن آخر دراسة للجدوى الإقتصادية جرت في سنة 1997 كبّدت الخزينة نحو أربعة ملايين دولار، يشير القرم إلى أن المحاولات التي تجريها الوزارة حالياً هي للوصول إلى جهة يمكنها أن تؤمن الدراسة مجاناً. وإذ يلفت إلى إجتماعات عقدت في الاسبوع الماضي لهذه الغاية، يتحدث عن أفكار لم تتبلور بشكل نهائي حتى الآن، مسجلاً تحفظاً على كون العمل المجاني يبقى محملاً بـ»مخاطر المنافع الشخصية التي قد توجهنا بطريقة معينة».
هذه الذرائع ترفضها مصادر خبيرة في القطاع وتضعه في إطار التسويف والمماطلة الذي هدر ثمانية أشهر حتى الآن من عمر قطاع، كان يفترض، لو جرت تأدية المهام بشكل جدي وصحيح منذ البداية، أن يكون لدينا مشغّل جديد بعقد يحفظ حقوق الدولة ويوقف ما تعتبره المصادر إساءة متمادية بحق قطاع البريد.