انطلاقاً من العمل على اخراج لبنان من اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF)، اتخذ مصرف لبنان الخطوة الأولى ضمن سلسلة من الإجراءات الإحترازية، الهادفة إلى تعزيز بيئة الامتثال داخل القطاع المالي.
وتتمثل هذه الخطوة في فرض الإجراءات الوقائية على جميع المؤسسات المالية غير المصرفية المرخّصة من قبل مصرف لبنان.
مصادر من مصرف لبنان تحدثت لـ “الديار” عن عقد اجتماع بين مصرف لبنان ونقابة الصرّافين وعدد من الجهات المعنية، خُصّص لبحث سبل تشديد الرقابة على عمليات الصرافة، وحركة الأموال النقديّة داخل لبنان. وقضى الإجتماع بإلزام الصرّافين بتعبئة استمارة خاصة لكل عميل، ينوي تصريف مبلغ يساوي أو يتجاوز ألف دولار أميركي (أو ما يعادلها)، تتضمّن معلومات عن مصدر الأموال، الغاية من العملية، وجهة الأموال بعد التصريف أو التحويل.
وتشير المصادر إلى أن وضع هذه الخطوة في إطار أوسع لمكافحة توسّع اقتصاد “الكاش”، والحدّ من النشاطات غير المراقَبة، التي يُعتقد أن جزءاً منها يمول جهات خاضعة للعقوبات، تماشياً مع الضغوط الأميركية المستمرة في ملف مكافحة تمويل الإرهاب.
واعتبرت هذه المصادر أن هذه الإجراءات من أولى المؤشرات الميدانية لنتائج زيارة الموفد الأميركي من وزارة الخزانة إلى بيروت، وما حملته من رسائل حول ضرورة تعزيز الرقابة المالية، وضبط قنوات تمويل إيران وحزب الله عبر النظام المالي اللبناني.
ملاحظات
في السياق، أبدى الباحث المقيم لدى كلية سليمان العليان لإدارة الأعمال (OSB) في الجامعة الأميركية في بيروت (AUB) الدكتور محمد فحيلي بملاحظاته على جدوى الإجراء وحدوده، و قال لـ “الديار”: “انطلاقاً من أهداف مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، والحدّ من اقتصاد الظل، لا بد من تسجيل الملاحظات التالية:
1- “إيجابية التوجّه، ولكن محدودية الأثر إذا بقي منفرداً. توثيق العمليات فوق عتبة الـ 1000 دولار خطوة مفهومة، في سياق متطلّبات الامتثال الدولي. غير أن الاكتفاء باستمارة لدى الصرّافين قد يبقى إجراءً شكلياً، ما لم يُستكمل بإطار متكامل لإدارة المخاطر يربط المعلومات المجمّعة بالتحليل والمتابعة الفعليّة.
2- سهولة الالتفاف عبر تفتيت العمليات والانتقال إلى قنوات موازية. يمكن لأي طرف يرغب في التهرّب من الرقابة، أن يلجأ إلى تقسيم العملية إلى عدّة مبالغ أقل من 1000 دولار (Smurfing) ، كما يمكن أن يدفع التشدد غير المتوازن نحو توسيع استخدام قنوات غير منظّمة.
3- معالجة الأعراض بدل الأسباب البنيويّة لاقتصاد “الكاش”. إنّ تشديد الاستمارات عند الصرّافين لا يعالج هذه الجذور، بل قد يزيد من منسوب التوتّر بين المواطن والنظام المالي، إذا لم يقترن بإصلاحات جوهرية.
4- خطر الانتقائية في التطبيق وتقويض الثقة الرقابية. فأي انطباع بأن الإجراءات تُطبَّق بصرامة على المودع العادي أو صاحب التحويل الصغير، وغض الطرف عن شبكات كبيرة أو جهات محميّة سياسياً، سينسف الهدف الرقابي والرسالة المرسلة إلى الشركاء الدوليين.
5- إمكانية تعزيز الإقصاء المالي بدل الحدّ منه. فإذا شعر المواطن أو صاحب العمل الصغير أنّ كل تعامل فوق 1000 دولار سيعرّضه لاستجواب، أو تدقيق مزعج وغير واضح المعايير، قد يفضّل الخروج أكثر من النظام الرسمي. وهذا يناقض أهداف الشمول المالي، ويزيد مخاطر تبييض الأموال بدلاً من تقليصها”.
ضرورة اتخاذ هذه الخطوات
وحتى تؤتي هذه الخطوات ثماراً حقيقية، اقترح فحيلي اتخاذ الخطوات التالية:
1- دمج الإجراء ضمن استراتيجية وطنية لتقليص اقتصاد “الكاش”، وربط الإجراءات عند الصرّافين بخارطة طريق واضحة، لإعادة هيكلة القطاع المصرفي ومعالجة الودائع، بما يعيد الحدّ الأدنى من الثقة بالنظام المالي، كما والسير نحو مقاربة أكثر استقراراً لسعر الصرف، وتخفيف تعدّد الأسعار الذي يشجّع التعامل النقدي خارج القنوات الرسمية.
2- توحيد معايير مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب على كل الجهات المكلّفة. وتوسيع الرقابة لتشمل ليس فقط المصارف والصرّافين، بل أيضاً المهن والأعمال غير المالية المكلّفة، كما واعتماد منهجية واضحة للمخاطر القطاعية تُنشر خلاصتها بشفافية للرأي العام.
3- إصدار تعميم تفصيلي وشفّاف يوضح حقوق وواجبات كل طرف. كما وتحديد نموذج الاستمارة ومضمونها، والحد الأدنى من المعلومات المطلوب جمعها، وكيفية حفظها وحماية سريّتها. وتحديد ايضا الجهة التي يحق لها الاطلاع على هذه البيانات (مثل هيئة التحقيق الخاصة)، وفترات الاحتفاظ بها، وآليات الإبلاغ عن العمليات المشبوهة. كما والتأكيد في التعميم على أن الغاية هي حماية النزاهة المالية، لا التضييق الاعتباطي على الأفراد والشركات.
4- اعتماد مقاربة تدرّجية ومخاطرة – مبنيّة، والتمييز بين العملاء ذوي المخاطر المنخفضة (موظفون، متقاعدون، تجار صغار…) والملفات ذات المخاطر الأعلى، كما ورفع عتبة التدقيق المتشدّد على أساس سلوك العميل وتكرار العمليات.
5- ضمان استقلالية وفعاليّة المتابعة، وتمكين هيئة التحقيق الخاصة من استخدام المعلومات المجمّعة بصورة ممنهجة، كما وربطها بقاعدة بيانات موحّدة على مستوى النظام المالي. وايضا نشر تقارير دورية (ولو بمؤشرات عامة) عن عدد الحالات المشبوهة، ونوعية المخاطر المكتشفة، والإجراءات المتخذة، لتعزيز ثقة الداخل والخارج بجدّية لبنان.



