مضى عامان على صدور المرسوم 9458 الذي يفترض بمادته السادسة عشرة أن تكافح «الإنترنت غير الشرعي» عبر تسوية أوضاع الشركات المخالفة، وتنظيم عملها تحت كنف الدولة لحين قوننتها أو انتقالها إلى شركات مرخّصة وفقاً للأصول. ورغم أن المرسوم حدد ستة أشهر لهذه العملية، إلا أن تطبيقه لم يبدأ بعد. بل تبيّن أخيراً، أن وزير الاتصالات جوني القرم، أعدّ نموذج عقدين أرسلهما الى ديوان المحاسبة لاستطلاع رأيه فيهما. الأول بين وزارة الاتصالات وهيئة أوجيرو بهدف منح الهيئة «امتياز» تنظيم عقود صيانة مع شركات توزيع الإنترنت أو الأفراد. والثاني بين «أوجيرو» و«ديوك الحيّ» لمراقبة عملهم، بالإضافة إلى تعهد الهيئة بتسديد مستحقاتهم عن أعمال صيانة الشبكات.نصت المادة 16 من المرسوم على أن يتم ضبط الشبكات المنشأة خلافاً للأصول، وأن توضع بتصرّف وزارة الاتصالات لإدارتها وتأمين استمرارية الخدمة. ويتم ذلك من خلال التعاقد مع الشبكات المضبوطة لثلاث سنوات مقابل بدل صيانة. وسمحت المادة 17 لشركات نقل المعلومات المرخص لها باستثمار الشبكات المضبوطة بعد موافقة وزارة الاتصالات.
خاضت وزارة الاتصالات نقاشات بشأن آلية تطبيق المرسوم، وسألت ديوان المحاسبة عما إذا كانت التسوية تشرّع وجود هذه الشبكات. أفاد الديوان بأن التسوية لا تخلق شرعية للشبكات، لكن رغم ذلك ماطلت الوزارة في التطبيق إلى أن أصدرت في تشرين الأول 2023 «آلية تطبيق المرسوم 9458 وبالأخص أحكام المادتين 16 و17»، ثم قبل أيام أرسل الوزير القرم نموذجاً عن عقود الصيانة وعرضها على الديوان.
نماذج العقود التي أعدّها القرم تطبّق المرسوم على شكل عقود صيانة بين «أوجيرو» و«ديوك الحيّ»، أي أنها تستثني الشركات المرخصة التي تؤجّر السعات الدولية لـ«الديوك». هذا النوع من المكافحة مغاير للفكرة الأساسية التي ترجمت بـ«تسوية» تمتدّ لنحو ثلاث سنوات. فالعقود ستمنح الكبار – المرخصين إعفاء من كل ارتكاباتهم، مقابل إخضاع «ديوك الحيّ»، لكنها لن تتحوّل إلى أداة ضبط للشبكة لأن المشتركين سيبقون في عهدة «ديوك الحيّ» ولن يتم التصريح عنهم إلا على شكل مبالغ مالية. وذلك يعود إلى الثغرات التي وردت في المرسوم والقرار التطبيقي. إذ اقتصر فيهما دور «أوجيرو» على تنظيم عمل موزّعي خدمات الإنترنت غير الشرعيين، وتسليمهم إلى الشركات المرخّصة، لا العمل من أجل نقلهم إلى «أوجيرو». فالمرسوم يغفل أن التراخيص الممنوحة للشركات المرخصة تمنعها من بيع أو إعادة بيع السعات الدولية التي تؤجرها لديوك الحي. وهؤلاء يقدّمون خدمة الإنترنت للمشتركين عبر هذه السعات، وذلك مثبت في تقرير صادر عن ديوان المحاسبة يشير إلى أن السعات الدولية المستهلكة من الشركات المرخصة تبلغ نحو 470 ميغابيت/ ثانية مقابل 145 ألف مشترك مصرّح عنهم، بينما تستخدم أوجيرو 92 ميغابيت/ ثانية لـ 280 ألف مشترك، أي ما يفوق عدد مشتركي الشركات بضعف. وهذا الأمر يفوّت على الخزينة عائدات تقدّر بنحو 60 مليون دولار، عن أكثر من 635 ألف مشترك.
يبرز هنا سؤالٌ لا إجابة عنه في القرار التطبيقي الصادر عن وزير الاتصالات: هل يتم تشريع الشبكات التي تنشأ خلافاً للقانون وتتوسّع في المناطق، بعد تاريخ صدور المرسوم؟ هل يسمح بتمددها وزيادة عدد المشتركين فيها؟ اللاإجابة تنطبق أيضاً على مسألة الطلب من «أوجيرو» توقيع عقود صيانة مع الشبكات المضبوطة. إذ إن دور أوجيرو يقتصر على أن تكون مراقباً للشبكات المخالفة مقابل 220 ألف ليرة عن كل مشترك، وكأنّ الهدف إرضاؤها بالفتات لتغطية أرباح الشركات بالملايين، ومن دون تحديد مصير الشبكات غير الشرعية التي يفترض أن تسترجعها الهيئة وتضمّها إليها لتشغيلها بنفسها. وإلا ما الهدف فعلياً من المرسوم؟
من هذا المنطلق، يقول خبراء في قطاع الاتصالات إنه كان أجدى بالوزير، بدلاً من الدخول في مفاوضات مع الموزّعين طوال عامين، وهدر المزيد من المال العام، أن يعمد الى مطابقة السعات الدولية (E1) التي تشتريها الشركات الخاصة المخالفة لتصاريحها، مع أعداد المشتركين المفترضين، بما يلزمهم بالتصريح عن مشتركيهم للدولة والتقيد بالأنطمة. ففي ظل الطريقة الحالية في التعامل مع مكافحة الإنترنت غير الشرعي، ستعجز أوجيرو، وبالتالي وزارة الاتصالات والقوى الأمنية عن الوصول إلى أي معلومة تتعلق بهوية الزبائن وأماكن إقاماتهم وأرقام هواتفهم، وهذه خسارة أمنية ومالية. بدلاً من ذلك، جرى التعامل مع المخالفين بلطافة مثيرة للارتياب، إذ مُنحوا حق الاستثمار في الشبكات المخالفة وتوسيعها مستقبلاً كأن الهدف الفعلي تفريغ هيئة أوجيرو وبيع القطاع للشركات الخاصة مجاناً.
يعارض وزير الاتصالات جوني القرم هذا المنطق، إذ يقول لـ«الأخبار»: «في المرحلة الأولى، عمدنا إلى جمع معلومات عن الشركات الموزعة للإنترنت لمعرفة عدد مشتركيها الفعلي وضغطنا عليها عبر عدم تسيير معاملاتها إلا إذا صرّحت عن تلك المعلومات. وفي المرحلة الثانية استمعنا إلى آراء الجميع بمن فيهم الـ DSP والـ ISP، وأعددنا لجنة من 3 مديرين عامين وممثلين عن أجيرو والوزارة ومنتدب من قبل القاضي علي إبراهيم لمتابعة تنفيذ المرسوم، وهي تجتمع مرتين في الأسبوع». ويشير إلى عقد اجتماعات مع موزعي الاحياء «وقد أفهمناهم إصرارنا على تطبيق المرسوم، وقرار الديوان الصادر في عام 2021، وأن دورنا يقتصر فقط على ضبط الشبكة، الا أن قرار ملكيّتها والتعويضات والغرامات بيد القضاء. أما في حال عدم حضورهم فسيحال الملف مباشرة إلى القاضي إبراهيم».
ويعتقد القرم أن شركات توزيع الإنترنت لم تتلكأ عند صدور قرار التكليف «بدفع 550 ألف ليرة مقابل كل مشترك، مع إمكانية استرجاع 330 ألف ليرة في حال ضبط الشبكة». لكنْ ثمةَ خلط بين الشركات الموزعة وديوك الحيّ، فمبلغ الـ 330 ألفاً سيكون من حصّة ديك الحي لقاء صيانة الشبكة، أما مبلغ الـ 550 ألفاً فهو غرامة يستحيل استرجاعها. وفي كل الأحوال، هذه المعادلة بمثابة مقاصّة مخالفة لقانون المحاسبة العمومية، وربما من أجل ذلك لم يعمد القرم إلى تقاضي أيّ رسم من الموزّعين المتقدّمين الى الوزارة والبالغ عددهم 49 موزعاً من أصل 2000، لأن أي مبلغ سيدخل مباشرة إلى حساب الخزينة، ولن يبقى متاحاً تسديد حصّة ديوك الحيّ. فبحسب القرم «عمدت بعض شركات ISP الى تعبئة تصاريح جديدة تتضمن كل أسماء الموزعين، ومن لم يصرّح سوف نحرمه من 20% من السعات الدولية التي بحوزته».
لماذا الالتفاف على إجراء مطابقة حجم السعات مع أعداد المشتركين؟ إجراء كهذا، يسهّل العمل وينظّمه تلقائياً من دون أي حاجة إلى استجداء الشركات للحضور وإجراءات ضمان عدم التلاعب. بالنسبة إلى القرم، «نريد تحاشي قطع الإنترنت عن المواطنين. فكل خفض أو تسكير للسعات سينعكس ضرراً على المواطن، فضلاً عن أن خفض السعات يعني خفض إيرادات الدولة». لكن القرم لا إجابة لديه بشأن مصير الشبكات بعد نهاية عقود الصيانة، لكنه لا يمانع «تحوّل ديك الحيّ إلى موزع يعمل لدى الشركات الشرعية».
إذاً، لمَ الحديث عن مكافحة الإنترنت غير الشرعي؟ فالأجدر القول إنه يتم تشريعه وخلق سوق موازية لمنافسة القطاع الوطني، أي أوجيرو. عملياً، سيتم تقديم مفاتيح سوق الإنترنت بكامله للقطاع الخاص مجاناً.