في حين تسقط لجنة المال النيابية تباعاً كثيراً من المواد الضريبية التي أوردتها الحكومة في مشروع قانون الموازنة العامة، يتصاعد التململ في الأوساط المصرفية بعد استسهال اقتراح زيادة نسبة الضريبة على الودائع والتوظيفات في سندات الخزينة ولدى مصرف لبنان من 7 إلى 10 في المائة، واقتراح اكتتاب المصارف والبنك المركزي بسندات خزينة توازي 7.4 مليار دولار، بعائد 1 في المائة لمدة 10 سنوات.
ويستغرب مسؤول مصرفي كبير كيفية احتساب وفر من اكتتاب لم يتم التداول به أصلاً ولا تفصيلاً مع المدعوين لحيازة هذه السندات التي تتطلب التضحية بنحو 600 مليون دولار من العوائد المتاحة، وفقاً لمتوسطات الفوائد السائدة. ووفق محضر رسمي، نفى حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، خلال الاجتماع الشهري مع جمعية المصارف “ما يتم تداوله من إصدار سندات خزينة بقيمة 11 ألف مليار ليرة لبنانية ليكتتب بها بفائدة مخفوضة”، معتبراً أن هذا الموضوع “غير مطروح”، وأن “لا سيولة لدى المصارف تكتتب بها، ولا قدرة لها على أن تتحمل الاكتتاب بفوائد من خارج آليات السوق”
وفي انتظار جلاء الغموض الذي يحوط قضية السندات الخاصة، يسود اعتقاد بأن البنك المركزي سيتولى العملية بكاملها، على أن يسوقها لاحقاً لدى الجهاز المصرفي، مدعمة بحوافز يسددها من ميزانيته أيضاً. ذلك أن زيادة ضريبة الودائع والتوظيفات، وهي الزيادة الثانية في غضون عامين التي يتم تحميلها للمودعين وللمصارف معاً، أفضت إلى مضاعفة الضريبة مرتين، مما سيؤدي إلى ارتفاع حصيلة الاقتطاع الضريبي المزدوج إلى نحو 60 في المائة من إجمالي الإيرادات التي تحققها التوظيفات المصرفية، علماً بأنها وصلت إلى نحو 43 في المائة في عام 2018.
ووفق تحليل أجراه الأمين العام للجمعية، الدكتور مكرم صادر، فإنه “في حال إقرار رفع معدل ضريبة على فوائد الودائع المصرفية إلى 10 في المائة في قانون موازنة عام 2019، بدلاً من 7 في المائة المعمول بها، فإن العبء الضريبي على أرباح المصارف سيتخطى عتبة الـ60 في المائة في المتوسط، بدلاً من ضريبة الدخل البالغة 17 في المائة المطبقة على أرباح الشركات». وهذا ما يدحض “مجموعة من الفرضيات الخاطئة والمضلّلة والظالمة، وجوهرها يعود إلى اقتناع بأن المصارف لا تدفع ضرائب كافية. والحقيقة أن مجموع ضرائب الدخل التي سدّدتها المصارف عام 2018 وحدَه تخطى 1.63 مليار دولار، مما يعني تحميل المصارف معدل ضريبة فعلية قارب 42 في المائة من أرباحها، بدلاً من الـ17 في المائة التي فُرضت كمعدل ضريبة على أرباح الشركات».
ويقول المصرفي رامي النمر لـ«الشرق الأوسط»: «نحن ننتظر حالياً ما ستؤول إليه مداولات اللجان النيابية والهيئة العامة للمجلس بخصوص بنود مشروع قانون الموازنة الذي أحالته الحكومة. كما ننتظر ترجمة المبادرة الحكومية بالشروع في إعداد موازنة العام المقبل. ما يقلقنا الاستسهال في الاعتماد على الضرائب، بخلاف الوعود السابقة، كخيار أساسي لزيادة موارد الخزينة، ومن دون التحوط إلى مخاطر دفع الاقتصاد إلى مزيد من الانكماش، علماً بأنه يمكن تأمين إيرادات مضاعفة ووافية لسد كامل العجز من خلال وقف الهدر، ومكافحة التهرب الضريبي، ومعالجة ملف الكهرباء، وهيكلة القطاع العام».
ويضيف: «نعتقد أن الحكومة تحيد عن الصواب المالي من خلال اللجوء إلى زيادة الضرائب على استثمارات المصارف، بما يشمل محافظها من سندات الخزينة والتوظيفات لدى مصرف لبنان المركزي. ففي موازنة العام الماضي، تم ضم المصارف إلى المكلفين بعد رفع الضريبة المستوفاة من 5 إلى 7 في المائة على التوظيفات، ومن 15 إلى 17 في المائة على الأرباح، مما أنتج ازدواجاً ضريبياً صريحاً، إذ توظف المصارف أموال المودعين الخاضعة أساساً للضريبة في سندات الخزينة وشهادات الإيداع، ثم تعاود الدفع ثانية على الأرباح، وأيضاً على توزيعات الأرباح».
ويوضح النمر الذي يرأس «فرست ناشيونال بنك» (من مجموعة المصارف الكبرى) أن «الزيادة الجديدة للضريبة إلى 10 في المائة ستضغط حكماً على الربحية الصافية للمصارف وجدواها، إذ نقدر أن تنحدر من متوسط 9 في المائة إلى أقل من 7 في المائة على الأموال الخاصة لكل مصرف، وهذا من أدنى العوائد في المنطقة وفي الأسواق الناشئة. كما يمكن أن تؤثر سلباً في توجهات المودعين، وبالأخص منهم غير المقيمين، حيث نتوقع أن يزيد حجم الاقتطاع الضريبي من عوائد إيداعات العملاء من 500 إلى 750 مليون دولار سنوياً، لا سيما أن الضريبة تطال كل شرائح ودائع العملاء المنتجة للفوائد بالليرة وبالدولار».
وفي المقابل، يقول النمر: «ينبغي تذكير من يعنيهم الأمر بأننا نضطر، كمصارف، إلى رفع العوائد لصالح الزبائن إلى متوسط يتجاوز 10 في المائة بسبب زيادة المخاطر المالية للدولة، وانخفاض التصنيف السيادي الذي ينذر بضرورة حجز مخصصات أعلى مقابل التوظيفات المصرفية لدى الدولة، في حال صدور إشارات سلبية جديدة من مؤسسات التقييم الدولية، مع التنويه بأننا نبذل جهوداً استثنائية ومكلفة حالياً لجذب ودائع وتوظيفات خارجية تساهم في الحد من تفاقم عجز ميزان المدفوعات، وفي زيادة احتياطات البنك المركزي التي تشكل الضمانة للاستقرار النقدي، والأداة الفعالة لصد أي محاولات للمضاربة في سوق القطع».
ويؤكد أن «ما حملته الصيغة شبه النهائية لمشروع قانون الموازنة لا يتضمن أي ميزة يمكن البناء عليها، باستثناء الخفض الرقمي والنظري للعجز من مستوى 11.5 في المائة إلى معدل 7.6 في المائة من الناتج. وذلك عبر تحميل العبء الأكبر لانفلات الإنفاق العام والتهرب الضريبي على أكتاف مصرف لبنان الذي تكفل بتأمين التوازن المالي للدولة في أصعب الظروف، وعلى موارد القطاع المصرفي الذي تقل حصته في الناتج عن 9 في المائة، مما يكشف عدم العدالة في توزيع المردود الضريبي، حيث تدفع سائر الشركات 17 في المائة فقط على الأرباح (الدفترية). وأيضاً تضخيم الأعباء على مودعي المصارف، وجلهم من موظفي القطاعين العام والخاص والمهن الحرة الذين يؤدون ضريبة الدخل ومصرف لبنان، علماً بأن القطاع المالي متعب أصلاً، ويسجل تراجعاً في مجمل مؤشراته الحيوية، ويتلقى سيلاً دافقاً من الاتهامات التي تضخم ربحيته لتيسير قضم المزيد منها».
ويلفت: «إذا كان ضرورياً توجيه رسائل طمأنة إلى الخارج والداخل، والأسواق المالية والمستثمرين، فالمضمون غير كاف لتوقع التجاوب المنشود. فالمجتمع الدولي الذي التزم بتوفير مساعدات وقروض تصل إلى 11.5 مليار دولار في مؤتمر «سيدر» لديه مذكرة التزامات إصلاحية أشمل وأكثر جدية تكفلت بها الحكومة. كما يراقب مسار معالجة ملف الكهرباء الذي يستهلك بمفرده نحو 1.5 مليار دولار سنوياً. وفي الداخل، يستمر حال من عدم اليقين الذي نتابعه في مستويات التداول في البورصة، وفي أسعار الأوراق المالية، من أسهم وإصدارات عائدة للشركات المالية وغير المالية، وهي أسعار متدنية للغاية تعكس تواصل القلق وعدم ترقب جدوى أو ربحية توازي حجم المخاطرة في حيازة الأوراق اللبنانية».
وتبرز المرارة المصرفية أكثر في القراءة التحليلية التي أجراها الأمين العام، حيث يقول صادر: «ربما يجهل الفرقاء السياسيون الأساسيون، رغم كثرة المستشارين داخل صفوفها ومن خارجها، أن المصارف ساهمت وحدها خلال عام 2018 بما يزيد على 58 في المائة من حصيلة ضريبة الدخل على أرباح الشركات المساهمة والمحدودة المسؤولية والفردية، التي يزيد عددها على 150 ألفاً (مقابل 65 مصرفاً عاملاً في لبنان)»، ويحذر من أن «قمّة الخطر على الاستقرار المالي في البلد أن تتحوّل المصارف إلى المموِّل الرئيسي لاستمرارية منظومة الفساد والهدر داخل الطبقة الحاكمة. عندها، تسقط في خضمّ الصراع الذي يشتدّ في المنطقة، المحرّمات التي حالت دون استهداف هذا الاستقرار النقدي والمالي حتى الآن. فحذارِ من فتح باب جهنم. وللعلم، ثمّة مصارف أجنبية كثيرة تحوم حول كبار المودعين في البلد كالغربان لإقناعهم بتحويل أموالهم إلى الخارج تفادياً لظلم الدولة اللبنانية».
ويذكر صادر بأن «الطبقة السياسية في لبنان تجهل أو تتجاهل مقدار الدعم المالي غير المباشر الذي يقدّمه الجهاز المصرفي بمكوّنَيْه التجاري والمركزي للدولة اللبنانية، من خلال إقراض الخزينة بفوائد معتدلة، مقارنة مع مخاطر لبنان السيادية. فالقطاع المصرفي يوفّر للدولة قروضاً بالليرة والدولار تفوق 72 مليار دولار، بفائدة مدينة متوسطة قدرها 6.4 في المائة، بدلاً من 13 في المائة في المتوسط تدفعها أي دولة مصنّفة بـدرجة «- B» من قبل مؤسّسات التقويم الدولية، مما يوفّــر فعلاً على الخزينة 5.4 مليار دولار سنوياً. وتصل مساهمة القطاع بطريقة مباشرة وغير مباشرة إلى زهاء 7.1 مليار دولار لخزينة الدولة، أي أن القطاع المصرفي المركزي والتجاري يموِّل أكثر من ثلث النفقات العامة، ويمثّل نحو ثلثي إيرادات الدولة».