تنعدم الإستثمارات مع انعدام الإصلاحات

منذ العام 2011 بدأت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في لبنان أو ما يسمّى FDI Foreign Direct Investment تسجل انخفاضاً من ذروة بلغتها عند حوالى 5 مليارات دولار في 2010 وصولاً الى 2.63 مليار دولار في العام 2017، وفق أرقام مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية «UNCTAD»، ثم الى 2,88 مليار في 2018، و2,2 مليار في 2019، و1,3 في 2020، علماً ان استثمارات العام 2020 نتجت عن نقل أرصدة من حسابات (غير مقيمة) في مصارف لبنان Non Resident Accounts لشراء عقارات بسبب الازمة المصرفية والمالية التي اندلعت في 2019، أي انها انتقلت من وديعة داخل لبنان الى عقار داخل لبنان.

وبالتالي، منذ العام 2021 ولغاية اليوم، فان الاستثمارات الاجنبية في لبنان ضحلة جداً بعد ان بلغت 605 ملايين دولار في العام 2021 وصولاً الى 458 مليون دولار في 2022.

جملة أسئلة تطرح نفسها

وسط حالة الانهيار المالي والاقتصادي والنقدي والاجتماعي الحالية في لبنان من دون أفق او خطة قيد التطبيق للاصلاح والخروج من الازمة المستفحلة، ما هي التوقعات بالنسبة للاستثمارات المستقبلية في بلد تغيب عنه دولة القانون وتنعدم فيه الثقة بالقضاء الذي أصبح مرتهناً للطبقة الحاكمة، ولا مجال للمساءلة والمحاسبة فيه، ولا رئيس لجمهوريته ولا سلطة تنفيذية وتشريعية فعالة او صالحة لاقرار وتنفيذ الاصلاحات الجذرية وفق الاتفاق مع صندوق النقد الدولي؟ علماً ان الاتفاق مع الصندوق حدد برنامج إنقاذ للسنوات القادمة وكان كفيلا» باستعادة ثقة المجتمع الدولي والمستثمرين الاجانب بالبلاد، لو تم البدء بتطبيق شروطه او اجراءاته المسبقة على الاقلّ!

وما هي التوقعات للاستثمارات الجديدة في لبنان في ظلّ عدم وجود قطاع مصرفي فعال وعدم البدء حتّى باعادة هيكلة هذا القطاع، وسط تهرّب واضح من كيفية معالجة الازمة المصرفية وسدّ الفجوة المالية في النظام المصرفي وإمعان في تذويب أموال المودعين. وكيف يمكن ان يستعيد لبنان ثقة الدول المانحة او المستثمرين الاجانب بعد تخلّفه عن سداد ديونه الخارجية وعدم الاتفاق بعد على خطة واضحة مع حملة سندات اليوروبوندز؟

عوامل الجذب شبه غائبة

ان عوامل جذب الاستثمارات الى لبنان صارت شبه غائبة تماماً، وهي المتمثلة أساساً بالحماية القانونية والضمانات من المخاطر التي يمكن ان يتعرض لها المستثمر في البلد المضيف من اضطرابات سياسية، ومخاطر الحروب، واعمال تمييزية بحقه، ومن تأميم، وقيود مفروضة على التحويلات، او تحامل القضاء ضده.

ومن أبرز العوامل الجاذبة التي يفتقر لها لبنان أيضاً: الاستقرار السياسي والامني والمالي والاقتصادي، الحد من البيروقراطية، مكافحة الفساد، وقف إساءة استخدام السلطة الموكلة لتحقيق مكاسب شخصية، تعزيز الشفافية والحوكمة والمساءلة والنزاهة على جميع المستويات وفى جميع القطاعات، التحول الرقمي الحكومي، الحوكمة وتعزيز الشفافية، بالاضافة الى تأهيل البنية التحتية وقوة الاقتصاد ونموه وتنوعه، واتساع حجم السوق مع استقرار وتحسن وتيرة النمو الاقتصادي، استقرار معدلات التضخم وبقاؤها عند مستويات منخفضة، وكذلك استقرار أسعار الصرف.

لا استقرار ولا ثقة

في هذا الاطار، رأى رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي شارل عربيد ان العامل الاساسي للاستثمار هو الثقة والاستقرار. وعلى الرغم من وجود فرص استثمارية، فان الاستقرار مفقود في لبنان ومصداقية البلاد country credibility «ليست في أحسن احوالها».

واشار عربيد الى اهمية القطاع المصرفي والقضاء والاصلاحات الجذرية المطلوبة لمكافحة الفساد كعوامل اساسية ايضاً لجذب الاستثمارات، مؤكداً لـ»نداء الوطن» انه عندما تغيب تلك العوامل مجتمعة، لا تعود فرص الاستثمار عامل جذب، علماً ان الدول ذات المخاطر الكبرى يكون مردود الاستثمار فيها كبيراً hish risk ) high return ) «إلا انه للاسف، أصبحت مخاطر لبنان كبيرة ومردود الاستثمار فيه ضئيل».

الكلفة التشغيلية مرتفعة
بالاضافة الى ذلك، لفت الى ان الكلفة التشغيلية المرتفعة في لبنان والبنية التحتية المتردية لا تشجعان على الاستثمار، فالقطاع الخاص على سبيل المثال ينتج طاقته الخاصة على حسابه، «وبالتالي لم يعد لبنان جاذباً للمستثمر اللبناني ولا للمستثمر الاجنبي».

الفرص والوقت
في المقابل، يعول عربيد على فرص تحقيق الاستقرار السياسي او وضوح الرؤية المستقبلية السياسية بناء على التفاهمات المحلية والاقليمية، وعلى امكانية استكشاف الغاز الذي يشكل عاملاً اقتصادياً جديداً في المعاجلة الاقتصادية للبلاد، ما من شأنه ان يحيي فرص اعادة الاهتمام بالاستثمار في لبنان او ان يفتح مجدداً شهية الاستثمار فيه.

وحذر عربيد من عامل الوقت الذي يداهمنا ومن فرص الاستثمار التي تخسرها البلاد نتيجة تلكؤ السلطة الحاكمة في تطبيق الاصلاحات، خصوصا في ظلّ المنافسة الكبيرة من قبل الدول المجاورة والتي تقدم حوافز وتسهيلات وتؤمن بيئة حاضنة للاستثمار اكثر بكثير من لبنان.

الإتفاق مع صندوق النقد

بدوره، اعتبر رئيس مجلس إدارة مدير عام المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمارات في لبنان «إيدال» مازن سويد ان العائق الاساسي امام جذب الاستثمارات الخارجية هو عدم وضوح الرؤية الماكرو اقتصادية وعدم بتّ الاتفاق مع صندوق النقد الدولي في مقابل تصريح الطبقة الحاكمة التزامها به. مشيراً لـ»نداء الوطن» الى ان الاعلان عن عدم نيّتهم السير بالاتفاق مع الصندوق، سيكون أفضل من حالة المراوغة الحالية، كما ان طرح خطة بديلة والبدء بتطبيقها أفضل من الالتزام ببرنامج الصندوق غير القابل للتطبيق سياسيا.

لا وضوح مالي ونقدي

وسأل سويد: أي مستثمر سيقصد لبنان في ظلّ عدم وضوح السياسة الضريبية والسياسة النقدية؟ أي مستثمر سيخاطر بامواله في غياب سياسة لحركة رؤوس الاموال capital repatriation؟

وأكد ان عدم الوضوح في السياسات الثلاث المذكورة يبرر الحجم الخجول جدّاً في الاستثمارات الأجنبية. إلا انه رغم ذلك «استطعنا جذب حوالى 300 مليون دولار من الاستثمارات (عبر ايدال) خلال العامين الماضيين في قطاعات حيوية مثل صناعة الادوية والصناعات الغذائية، معظمهم مستثمرون لبنانيون مقيمون في الخارج استفادوا من فرصة تراجع القدرة الشرائية لمعظم اللبنانيين لتعزيز الصناعة المحلية كبديل عن الاستيراد. مشدداً في هذا السياق، على انه لو توفر الوضوح بالرؤية الاقتصادية الشاملة، لكان حجم تلك الاستثمارات بلغ 3 مليارات دولار بدل 300 مليون!

سدّ الفجوة

واكد سويد ردّاً على سؤال، ان سدّ الفجوة المالية لا يشكل عائقاً طالما ان المستثمر على دراية بنوعية الضرائب التي ستُفرض لتسديد تلك الفجوة. مقترحاً تصفير الفجوة المالية وتحرير سعر الصرف وجباية ايرادات الدولة من ضرائب ورسوم على اساس سعر الصرف المحرر وليس اسعار صرف وهمية، مما يؤمن ايرادات كافية لتمويل عجز الدولة، في موازاة خصخصة خدمات الدولة الاساسية مثل الكهرباء والاتصالات وغيرها، أي تلزيم ادارتها وتشغيلها للقطاع الخاص بشكل شفاف.

كما لفت سويد الى ان عدم وجود قطاع مصرفي فعال يشكل ايضاً عائقاً اساسياً، «لان المستثمرين لا يعوّلون على رأسمالهم فقط من اجل الاستثمار بل بحاجة الى حوافز مالية اضافية، علماً ان وظيفة القطاع المصرفي الاساسية هي تحويل الودائع الى استثمارات».

وفيما رأى ان الاستثمارات لن تصل الى الانعدام بشكل كامل بسبب وجود بعض المستثمرين المؤمنين بلبنان ومستعدين للاستثمار فيه، إلا ان ذلك لا يشكل الا نسبة من حجم الامكانات المتوفرة في حال وجود الاستقرار، كما ان حجم تلك الاستثمارات (300 مليون دولار) لا يشكل شيئاً مقابل قيمة عجز الميزان التجاري البالغة حوالى 9 مليارات دولار!

قطاع الغاز

من جهته، شدد رئيس هيئة تنمية العلاقات الاقتصادية اللبنانية الخليجية إيلي رزق على ان الثقة هي العامل الاساس لجذب الاستثمارات مجدداً الى لبنان، لافتا الى وجود العديد من القطاعات التي يبدي المستثمر الخليجي اهتماماً بها، اهمّها اليوم قطاع النفط والغاز الذي أبدى القطريون اهتمامهم به في البلوك 9، «علماً ان البلوكات الاخرى قادرة ايضا على جذب شركات خليجية ذات خبرة كبيرة في الاستثمار بالقطاع النفطي ومشتقاته، بالاضافة الى قطاع الطاقة المتجددة والكهرباء والمواصلات والنقل…»

لا ثقة بالإدارة السياسية

ولكنّ رزق أكد لـ»نداء الوطن» ان الاهتمام الخليجي بالاستثمار في لبنان يعبأ أوّلا وأخيرا بفقدان الثقة بالادارة السياسية للبلاد، مشيراً الى ان الدول الخليجية فقدت ثقتها بكافة الاحزاب والقوى السياسية بعدما تبيّن لها انها تجيد فقط الكلام بالسياسات ولا تملك خبرة بوضعها وتطبيقها لتعيد نهضة البلاد على المستوى الحكومي، «علماً ان القطاع الخاص استطاع النهوض والصمود وحافظ على الثقة به، ولكنه بحاجة الى الاستقرار الامني والسياسي كي يتمكن من جذب الاستثمارات وعقد الشراكات».

إتفاق الصندوق

واشار رزق الى ان اهمية الاتفاق مع صندوق النقد الدولي تكمن في امكانيته ضبط الفساد والهدر وحماية صناديق الاستثمار واموال الدولة بعدما فقد المجتمع الدولي ثقته بالقوى السياسية الحاكمة التي نهبت وسرقت ثروات واملاك الدولة والودائع المصرفية. معتبراً ان الاتفاق مع الصندوق قد يكون عاملاً لاستعادة الثقة إلا ان الاساس يبقى في تغيير شامل للقوى السياسية الحاكمة وتعيين رجال دولة وليس رجال سلطة، يستعيدون هيبة المؤسسات وقدراتها ويحررونها من هيمنة الاحزاب والميليشيات عليها.

إفتتاح 3 فنادق عالمية

وفي الختام، اكد رزق ان الاستثمارات الخليجية معدومة باستثناء الاستثمار القطري المتجه نحو قطاع الغاز، كاشفاً عن احياء استثمارات في قطاع الفنادق يملكها خليجيون (قطريون وسعوديون) والتي يعاد ترميمها حالياً و سيعاد افتتاحها مع بداية العام 2024 (3 فنادق 5 نجوم عالمية) بعدما اظهر القطاع الخاص خصوصاً السياحي في لبنان ازدهاره ونموه وتأقلمه مع الازمات.

 

 

مصدرنداء الوطن - رنى سعرتي
المادة السابقةإقتصاد الكاش يفيد الأغنياء والميسورين لا الفقراء
المقالة القادمةموازنات ما بعد الطائف عاجزة على الدوام… لماذا؟