أي قانون لـ«كابيتال كونترول» لا بدّ أن يلحظ السيطرة على التصدير والاستيراد إضافة إلى القيود على الحسابات المصرفية. بخلاف ذلك، فإن عمليات التهريب ستتواصل بالوتيرة نفسها التي كانت جارية سابقاً، وهنا مجرّد عينة منها
ما خسره لبنان بسبب عدم إقرار قانون «كابيتال كونترول» منذ اليوم الأول للأزمة، ليس فقط تهريب الأموال واستنزاف احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، بل سمح ذلك بتهريب السلع الضرورية، والأصول التي سُدّد ثمنها مسبقاً بدولارات الاحتياطات. هكذا أصبحت الخسارة على مستويين: كمّي، ونوعي. فالخسارة في كمية الأموال المتوافرة لدى لبنان أو تلك التي تعرف باسم «الاحتياطات بالعملات الأجنبية»، أتت مع خسارة في كميات من السلع الأساسية والأصول التي أعيد تصديرها أو جرى تهريبها إلى الخارج عبر عمليات التصدير. ففي الفترة ما بين مطلع 2019 ونهاية 2021، انكمشت احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية بقيمة 18.8 مليار دولار. وحتى الآن، لم تطلب الحكومة، ولم يصدر أي رقم رسمي يوضح أين أُنفقت هذه الأموال وحقيقة الحاجة إلى إنفاقها، لكن ما بات معروفاً هو أن قسماً منها موّل عمليات تهريب الدولارات مباشرة وبشكل واضح عبر التحويلات إلى الخارج، وقسم آخر موّل عمليات تهريب مقنّعة من خلال استيراد سلع أو خدمات أو أصول كانت تسمّى بـ«المدعومة»، وقسم استعمل لتمويل استيراد السلع والخدمات التي استهلكها اللبنانيون خلال هذه الفترة، أي الإنفاق الحقيقي الذي كان يمكن الاكتفاء به. لكن إضافة إلى ذلك، فإن عمليات التهريب التي لا تظهر في أرقام الاحتياطات، هي الناتجة من تهريب السلع والأصول إلى الخارج عبر عمليات التصدير، وهنا لا يعود الأمر متعلقاً فقط بكمية الأموال المهرّبة، بل بنوعيتها باعتبارها حاجة أساسية للاستهلاك المحلّي.
في هذا المجال تحديداً، يمكن القول إن ضرورة وجود «كابيتال كونترول» كانت ستخفف من عمليات التهريب التي حصلت. فإلى جانب الاحتياطات بالعملات الأجنبية، هناك بعض الفئات التي يمكن إدخالها ضمن قاموس تهريب الأموال عبر القنوات الشرعية (هناك قنوات كثيرة غير شرعية مثل الساعات التي يمكن نقلها شخصياً أو حتى نقل الأموال النقدية…)، مثل تصدير المواد الغذائية، سبائك الذهب، المشتقات النفطية، الأدوية، والسيارات.
على افتراض أن لبنان ليس منتجاً للأرز والسكر والذرة والشعير والخواريف والشاي، فإن صادراته من هذه السلع في أيام العزّ (2017)، أي حين كان مجمل الواردات يوازي 6 أضعاف الصادرات، بلغت 68 مليون دولار. ومع ظهور الأزمة انحسرت صادرات هذه السلع إلى نحو 30 مليون دولار في 2018 و2019. لكن مع بدء الدعم في 2020 وصولاً إلى 2021، ازدادت قيمة الصادرات هذه إلى 56 مليون دولار و54 مليون دولار بينما كان مجمل الواردات يوازي نحو 3 أضعاف الصادرات. هذا المؤشّر مهم على تهريب السلع الضرورية والأساسية.
كذلك، شهد لبنان خلال السنتين الأخيرتين نشاطاً ملحوظاً في حركة تصدير سبائك الذهب. ففي عامي 2019 و2020 صدّر لبنان نحو 35 ألف سبيكة ذهب بقيمة تفوق 2.23 مليار دولار، مقارنة مع صادرات بقيمة 719 مليون دولار لنحو 16.3 ألف سبيكة. تهريب الأموال عبر تصدير سبائك الذهب هو أمر شائع، إذ إن الكثير من الناس الذين أتيح لهم سحب قسم من أموالهم نقداً بالدولار، أو سحبها شيكات وشراء سبائك ذهب مقابلها، باعوا هذه السبائك إلى الخارج وسدّد الثمن في أرصدته المصرفية في الخارج، سواء كانوا تجّاراً أم أفراداً. لكن هذا الأمر لا ينطبق على ما حصل في 2021، إذ إنه مع ارتفاع سعر الدولار في السوق الحرّة، ومع الجنون الذي سيطر على إدارة الأزمة في هذه الفترة وتوقف الدعم، نحا كثير من اللبنانيين أو المقيمين في لبنان لشراء السبائك وحفظ قيمة أموالهم، إذ بلغ حجم الاستيراد نحو 665 مليون دولار لنحو 6.8 ألف سبيكة.
السيارات كانت هي أيضاً إحدى الأدوات المستعملة لتهريب الأصول. ففي عام 2017 كان تصدير السيارات ضمن حدود متدنية مسجلاً 2.6 مليون دولار واستمرّ كذلك في السنتين التاليتين، لكن بحلول نهاية 2020 سجّل ارتفاعاً بنسبة تفوق 5 أضعاف ليصدر 13.4 مليون دولار، وفي 2021 صدر لبنان بقيمة 25.6 مليون دولار.
ورغم الحاجة الملحّة للأدوية، فقد صدّر لبنان بقيمة 47.9 مليون دولار في 2020 و37.8 مليون دولار في 2021، واستمرّت وزارة الطاقة بمنح التجّار إجازات تصدير للمشتقات النفطية إلى الخارج.