أثار رفض شركة “توتال” العرض المعدّل من قبل حكومة تصريف الاعمال على عارضيها المقدّمين لتلزيم البلوكين 8 و10، الكثير من التساؤلات والشكوك، نظراً لما سبق وأن أبدته من اهتمام للتنقيب والإستكشاف في هذين البلوكين، لا سيما بعد إعطاء لبنان رخصة لشركة “جيو أكس” بالشراكة مع مصر، للقيام بمسح زلزالي ثلاثي الأبعاد للبلوك 8. الأمر الذي جعلها تُسارع في محاولة لـ”وضع يدها” على البلوكين 8 و10، من خلال وضع عرضَين تماهت في توقيتهما مع التوقيت الذي يضعه العدو الإسرائيلي، لبدء أعمال التنقيب في الجهة المتاخمة للبلوك 8 والتي قام بتلزيمها حالياً.
فأين ذهب الحماس الفرنسي في إيجاد إكتشافات تجارية من الغاز والنفط في البلوكات اللبنانية الحدودية، وماذا وراء الأكمة؟! ولماذا أضاعت “توتال” مُجدّداً على لبنان فرصة تفجّر الغاز من بلوكاته البحرية؟ وما هو الدور الذي تؤدّيه الولايات المتحدة من خلال الضغط الذي تُمارسه على “توتال” لتفعل هذا ولا تفعل ذاك، بهدف إعطاء الأولوية لحليفتها “إسرائيل” في ما يتعلّق بالتنقيب عن الغاز والنفط في الجهة الحدودية المقابلة؟ ولماذا تناقص عدد الشركات النفطية العالمية المهتمة بالتنقيب في بلوكات لبنان البحرية من 52 شركة ، على ما كان الوضع عليه في دورة التراخيص الأولى، الى 3 شركات تمثّل الكونسورتيوم، حتى وصلنا الى صفر شركات في دورة التراخيص الثانية، مع تمنّع “توتال” عن توقيع العرض الأخير؟ وما الذي يُمكن أن يحصل في دورة التراخيص الثالثة المفتوحة منذ 27 كانون الأول 2023، والتي تنتهي في 2 تمّوز 2024؟!
تفاصيل القصة الكاملة
تقول مصادر مطّلعة على ملف النفط والغاز بأنّه في ما يتعلّق بالبلوكين 8 و10، شعرت “توتال” أنّه بإمكانها فرض الشروط التي تريدها على لبنان، إنطلاقاً من أنّه بلد ضعيف ربّما من وجهة نظرها، وهو بحاجة الى اكتشاف هذه الثروة في الوقت الراهن، وبأنّه يستطيع القبول بأي عرض كان. لهذا أصرّت على تقديم عرض لا يستوفي الشروط، رغم تنبيهها من قبل هيئة إدارة قطاع النفط بعدم تقديم أي عرض لا ينسجم مع دفتر الشروط، لأنّ هذا الأمر سوف يُعقّد الأمور.
وفي التفاصيل، وفق ما روت المصادر، أنّ العرضَين من شركة “توتال إنرجي” المشغّلة للكونسورتيوم المؤلّف الى جانبها من شركة “إيني” الإيطالية و”قطر للطاقة”، قد تقدّما قبل إقفال دورة التراخيص الثانية في 2 تشرين الأول الماضي. فدرستهما الهيئة ووجدت فيهما إنحرافات عدّة عن دفتر الشروط، هي:
1-عدم تقديم “توتال” الكفالات: إذ يفترض أن تؤمّن كفالة من الشركة الأم، وليس من الشركة المسجّلة في لبنان. وهذا أمر لا بدّ من وجوده لدى تقديم الطلب. ما جعل لبنان يضع علامة إستفهام على هذا الأمر.
2-عدم تقديم “توتال” وثائق ومستندات مطلوبة تتعلّق بالصحّة والبيئة والسلامة، رغم أنّ دفتر الشروط ينصّ عليها. علماً بأنّها لا تتطلّب وقتاً لتحضيرها.
3- من ناحية أخرى، يقسم دفتر الشروط مدّة الإستكشاف الى فترتين: الأولى لمدّة ثلاث سنوات، والثانية لمدّة سنتين، تُضاف اليهما سنة ثالثة تُعطى من قبل وزير الطاقة إذا لم تتمكّن الشركة لسبب أو لآخر، من إنهاء الأعمال خلال الفترة المحدّدة. وفي فترة الإستكشاف الأولى، المطلوب من الشركة تقديم مدّة التزامها القيام بأعمال معيّنة، وفترة أخرى لدراسة هذه الأعمال.
في العرضَين اللذين قدمتهما “توتال” للبلوكين 8 و10، طلبت مدّة 4 سنوات لفترة الإستكشاف الأولى. للوهلة الأولى يعتقد البعض أنّها ستُنجز أعمالاً كثيرة طوال هذه السنوات. غير أنّها بالفعل، قسّمتها على النحو الآتي: مدّة سنة لاتخاذ القرار بالقيام بمسح زلزالي في البلوك 8 أو لا، وبعد هذه السنة إذا قرّرت أن تقوم بهذا المسح وضعت 3 سنوات للتنفيذ. علماً بأنّ المسح يتطلّب نحو ثلاثة أشهر تقريباً، و6 أشهر على أبعد تقدير، وليس هناك من مسح زلزالي يتطلّب 3 سنوات في العالم.
وأوضحت المصادر نفسها أنّه في العرض الذي أرسلته هيئة إدارة قطاع النفط الى وزير الطاقة، والذي رفعه بدوره الى مجلس الوزراء، ذكرت أنّ “توتال” تربط نتيجة البلوك 9 بالمسح الزلزالي للبلوك 8. في حين أنّ التقرير النهائي للبلوك 9 يُفترض أن تقدّمه “توتال” الى الدولة اللبنانية في 7 آذار المقبل. لهذا اقترحت على مجلس الوزراء إعطاء “توتال” مهلة ثلاثة أشهر لاتخاذ القرار حول إذا ما كانت ستقوم بالمسح الزلزالي أم لا. ما يعني أنّها قصّرت المدّة، فإذا وافقت يُفترض أن تُجري المسح خلال سنة على أبعد تقدير. هذا التعديل الجوهري الذي أدخل الى البلوك 8، غير أنّ “توتال” لم تقتنع به.
وفي هذا السياق، لفتت المصادر الى أنّه عندما جاء هوكشتاين وبدأ بالحديث عن “إظهار” الحدود البرية، قال من حيث لا ندري بأنّه لا بدّ من المباشرة بالعمل في البلوكين 8 و10 ومن تسريع عمليات التنقيب. وعندئذٍ كان العدو قد أعلن دورة تراخيص، وعرض من ضمنها المنطقة المتاخمة للبلوك 8 للمزايدة، ولزّمها الى شركة أذربيجانية- بريطانية- “إسرائيلية”. فمن الجهة المقابلة، أمام العدو من سنتين الى ثلاث سنوات لإجراء المسح والدراسات، ما يعني أنّه إذا قمنا بمقارنة ما تعرضه “توتال” على لبنان خلال الفترة نفسها، يتبيّن لنا أنّها تُعطي “إسرائيل” الأفضلية بمدّة سنة للقيام بكلّ ما تريده قبل لبنان، في الوقت الذي تحتاج فيه في لبنان لمدّة سنة لتُقرّر بعدها إذا كانت ستقوم بالمسح الزلزالي أم لا. وهذه إشارة واضحة عن المماطلة وإعاقة عمليات التنقيب والإستكشاف.
وبالنسبة للبلوك 10، لأنّ المسوحات الزلزالية موجودة و”توتال” أشترتها، وضع لبنان في دفتر الشروط مدّة سنة لتُقرّر الشركة بعدها، إذا كانت تريد الحفر فيه أو المغادرة. فإذا قرّرت الحفر عليها وضع كفالة. غير أنّ “توتال” طلبت سنتين في طلبها لكي تتخذ القرار، و4 سنوات لفترة الإستكشاف، أي أضافت سنتين على دفتر الشروط من دون أي مبرّر. علماً بأنّه تقرّر إعطاء “توتال” مهلة ستة أشهر إضافية بقرار من وزير الطاقة، بعد انتهاء مهلة السنة وتوضيح الشركة، لماذا لم تتمكّن من اتخاذ القرار بالحفر خلالها؟
وهذا يعني، وفق ما أوضحت المصادر المطّلعة، أنّ “توتال” تريد أن “تسيطر” على المساحة البحرية من دون أن تلتزم بأي عمل حتى الساعة، وهذا يُناقض أهداف لبنان والتي هي “تسريع نمط الإستكشاف”. لهذا فمن غير المنطقي موافقة لبنان على عرض كهذا. مع الإشارة الى أنّه عندما أعطى لبنان رخصة إستطلاع لشركة “جيو أكس” بالشراكة مع شركة مصرية لإجراء مسح زلزالي ثلاثي الأبعاد للبلوك 8، أصبحت شركة “توتال” مهتمّة بتقديم العرضين لتلزيم البلوكين 8 و10، لإقفال الطريق على لبنان للقيام بهذا المسح في وقت يسبق الأعمال في جهة العدو الإسرائيلي.
الحصص المالية
وذكرت المصادر بأنّ لبنان أضاف أمر آخر يتعلّق بالحصص المالية، من خلال الطلب من مجلس الوزراء تفويض وزير الطاقة بالتفاوض مع الشركات على العرض المالي، من دون إدراج هذا الأمر في العقد، وذلك في حال حصل إكتشاف تجاري أكبر من الحجم المنصوص عليه في عرض الشركة. فقد أدرجت “توتال” في عرضها ما تتوقّعه في البلوك 10، وليس في البلوك 8 إذ لم تقم بالمسح الزلزالي له بعد، فأشارت الى أنّها مكامن تجارية صغيرة بحجم “حقل كاريش” تقريباً، وأنّ حصّتها كما هي في البلوك 9. ومن الممكن أن تكون أبقت على حصّتها كما هي، في الوقت الذي تقوم فيه بإطالة مدّة الإستكشاف، لتُطالب بعدها بتعديل الحصص. وإلاّ فما هي مشكلتها برفض هذا الأمر؟!
علماً بأنّ المدير التنفيذي لشركة “توتال” باتريك بوياني أبلغ لبنان، على ما عقّبت المصادر، وأرسل كتباً عديدة (وكلّها موثّق في ملف كامل سيما وأنّ المسار واضح)، مشيراً الى أنّه ليس مستعداً لإعادة النظر في عروض الشركة قبل صدور التقرير عن نتيجة البلوك 9، ما يعني أنّه موافق على هذه الفكرة. كما أنّ لبنان لم يقم بالتالي بما هو فوق الطبيعي. فالمدير التنفيذي موافق على الفكرة، وقد أضاف لبنان اليها شرطاً، وهو أنّه عندما يحصل إكتشاف أكبر ممّا هو في العرض، فإنّ وزير الطاقة مُلزم بأن يتفاوض مع الشركة على العرض المالي. ويُمكن القول بأنّ هذا الأمر يحصل في دول أخرى، ففي البلوك 12 (حقل أفروديت) في قبرص، اشترت شركة “شيفرون” عقداً من شركة كانت موقّعة منذ فترة مع الدولة القبرصية، وهي تقوم اليوم بالتفاوض على الحصص المالية من دون احترام العقد. تقول بأنّه لا يُمكنها الإنتاج من هذا الحقل إذا بقيت حصّتها قليلة، وهي تعلم بالتالي حاجة قبرص الى الغاز والمال، لهذا تبتزّها للحصول على حصص أعلى.
ومن هنا، يمكن القول بأنّ لبنان لم يُغيّر في الشروط بل حافظ على حقّ الدولة ولم يقتل الفرصة الإستثمارية، وأجّل هذا الأمر الى حين حصول إكتشاف ما.
هذه هي الشروط الأساسية التي وضعها لبنان على “توتال” وتمنّعت عن القبول بها، على ما تابعت المصادر عينها، من دون معرفة الأسباب. فلبنان قام بتخفيف الحواجز في دورة التراخيص الثانية انسجاماً مع ما يحصل في دول العالم، وذلك بعدم فرض حفر البئر على الشركة الملزّمة. ما يتيح للشركات أن تختار الفرص المؤاتية بحسب المخاطر والعقبات والحواجز. كما لعدم خسارة لبنان فرصة إستثمارية من قبل أي شركة مهتمّة، بسبب بند موجود في دفتر الشروط غير منسجم مع ما يحصل على الصعيد العالمي، لأنّه عندها تختار الشركات الدورات الأسهل لها.
قصّة البلوك 8
من جهة أخرى، تقول المصادر أنّه إذا أعطت الدولة اللبنانية شركة “توتال” الحقّ الحصري لإجراء المسح الزلزالي للبلوك 8، لا يعود بإمكان أي شركة أخرى العمل فيه، لا سيما الشركة الحاصلة على رخصة من دون حقّ حصري. وهدف لبنان هو الحصول على “داتا” المسح الزلزالي في أسرع وقت ممكن. لهذا كان أمام مسارين:
– الأول: إعطاء رخصة إستطلاع غير حصرية للشركة البريطانية- المصرية، على أن يتمّ جمع التمويل لهذه العملية، وأن تبدأ بالمسح في كانون الأول الفائت. وقد أصبح هذا الأمر صعباً في الوقت الراهن.
– الثاني: إعطاء حقّ حصري لشركة “توتال” الأمر الذي يُبطل مفعول الرخصة الأولى، التي لم تتوافر لها عناصر البدء بإجراء المسح لاعتبارات عديدة. غير أنّ “توتال” رفضت هذا العرض.
واللافت أنّ هذا الموضوع عندما جرى الإعلان عنه، بدأت شركة “توتال” التواصل مع الجهات المعنية في لبنان، للقول بأنّها مهتمّة بتقديم طلب إشتراك في البلوك 8. فقيل لها إنّ هناك دورة تراخيص ثانية يُمكنها التقدّم اليها. ولكن بعد فترة شهر، أبلغت المعنيين أنّها تُفكّر بتقديم عرض، لكنّها ستطلب فترة سنة لاتخاذ القرار بإجراء المسح أو لردّ المساحة. فسئلت: ما الفائدة من هذا الأمر؟ قالت إنها تريد التفكير ومعرفة نتيجة البلوك 9 ودراستها ، وعندما يصبح لديها معطيات أكثر تقرّر ما يجب فعله في البلوك 8. وبهذه الطريقة قدّمت عرضاً لا يهتمّ بدفتر الشروط.
وفي العودة الى المفاوضات غير المباشرة للترسيم البحري، ثمّة ما يلفت النظر، على ما شرحت المصادر عينها، وهو أنّه عندما جاء الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين في شباط من العام 2022 ووضع عرضاً لترسيم الحدود البحرية، عرض إعطاء الخط 23 الذي يخرق البلوك 8 ويقسمه نصفين حتى شمال “خط هوف”. وعندما سئل: ما التبرير لرسم هذا الخط؟ قال بأنّه ليس بالضرورة أن يكون هناك تبرير لكلّ شيء. وعلّل موقفه بأنّ لبنان أخذ الخط 23 في البلوكين 9 و10، ويريد أن يُعطي شيئاً في المقابل “لإسرائيل”. ما يعني أنّ هوكشتاين رسم في البلوك 8 الخط شمال “خط هوف” كأول طرح له. بعد ذلك، حصل الترسيم واضطر الى إعطاء كلّ البلوكات الحدودية للبنان، لكن هذا الموضوع جرى قبل المسح الزلزالي. غير أنّه عندما أعطى لبنان رخصة إستطلاع وأعلن عنها ونشرت في الجريدة الرسمية، هناك من دفع شركة “توتال” للقول بأنّها مهتمّة لتقديم عرض للبلوكين 8 و10 من دون أن تلتزم بدفتر الشروط، بهدف إضاعة الوقت على لبنان. وهذا الأمر ليس بمحضّ الصدفة. وهذا تأكيد إضافي الى أنّ هناك من لا يريد أن يحصل لبنان على “داتا” البلوك 8 بشكل سريع. لهذا اقترحت “توتال” عرضاً للماطلة في العمل وليس لتسريعه. والواضح أنّ ثمّة إصرارا من جهة ما على عرقلة البدء بأعمال التنقيب واستكشاف الثروة النفطية في لبنان.
“فيتو” أميركي
ولكن ثمّة من يتساءل: هل سبب تراجع “توتال” (والكونسورتيوم) هو ما يحصل في المنطقة، وهي لا تريد الدخول في استثمار إضافي في ظلّ المخاطر الأمنية عليه؟ أم أنّ الولايات المتحدة تضع عليها “الفيتو” كونها ووسيطها هوكشتاين يودّان استخدام هذا الملف كنقطة تفاوض في المرحلة المقبلة، لكي لا يعطي أي شيء جيبه ولا من جيب”إسرائيل”، كأن يقول للبنان “أعرض عليك أن تأتي “توتال” وتحفر بئراً في البلوك 10 هذه السنة، وأخرى في البلوك 8 في العام المقبل وفي العام الذي يلي، مقابل مثلاً لقاء إبعاد حزب الله بضعة كيلومترات عن الحدود الخ…؟ ويبدو أنّ اليوم عندما يريد الأميركي التفاوض مع لبنان، غالباً ما يعطيه أموراً ليس من جيبه، بل من جيوب الدول الأخرى. كما يريد أن يفعل أخيراً في مسألة تسليح الجيش وبناء الإقتصاد في الجنوب من مساعدات الدول الأوروبية والخليجية، على غرار ما سبق أن وعد لبنان باستجرار الغاز والطاقة من مصر والأردن، ولم يفعل حتى الساعة.. وفي النهاية، فإنّ أميركا و”إسرائيل” لا تخسران أي شيء خلال المفاوضات.
من هنا، يبدو واضحاً أنّ محاولة “توتال” إطالة فترة الإستكشاف في عرضّي “توتال” للبلوكين 8 و10، ومن ثمّ رفض عرض لبنان هي مسألة غير منطقية، وغير مبرّرة وتنسجم مع أجندة التأخير التي تصبّ في مصلحة “إسرائيل”. فالأمر بات مفضوحاً، ولا يُمكن بعد اليوم السكوت عنه.
“توتال” والموقعان الخطأ
ويبدو أن ّثمّة أمورا أخرى تثير الريبة، وفق المصادر المطلعة، وهو إصرار شركة “توتال” على الحفر في بئرين في البلوكين 4 و9 ، وتعلم سلفاً أنّها لن تجد فيهما غازاً ونفطاً. فبعد الحفر في البلوك 4 قال لها المعنيون إنّ الطبقات الجيولوجية فيه تختلف عن تلك التي في حقل “تمار” وفي بحر فلسطين المحتلّة والتي يجري الإنتاج منها، وهي ليست ممتدة الى البلوك 4. ولهذا عليها التفتيش عن بيئة جيولوجية أخرى، فلم تقتنع وأصرّت على الحفر في البئر التي اختارتها، وكأنّ هناك من يدفعها للمراوغة والمماطلة. علماً بأنّه لدى لبنان إشارات إيجابية، إذ أظهرت الأقمار الإصطناعية وجود البترول على سطح المياه، كما أنّه هناك تسرّبات للغاز تنبعث جرّاء المسح الزلزالي. فلبنان لا يتحدّث عبثاً عندما يقول إنّه “لدينا بترول وغاز”. غير أنّ الموقعين اللذين اختارتهما “توتال” للتنقيب فيهما يثيران الريبة.
كذلك الأمر بالنسبة للحفر في البلوك 9، قامت بالتنقيب في النقطة التي هي متأكدة من عدم امتداد الغاز اليها، انطلاقاً ممّا تقوله بأنّ الخبر السيء هو إيجابي لها، لأنّه يُؤدّي الى حصر مكان الخزّان ومدى امتداده. لهذا حفرت في البلوك 9 في الطبقات الجيولوجية نفسها، ولم تُغير أهدافها، رغم أنّه كان بإمكانها الحفر في نظلم جيولوجي مختلف أيضاً.
واعتبرت المصادر أنّه لا يُمكن إغفال ما يُرافق عمليات الحفر والتنقيب في لبنان من حظّ سيء. فعند بدء عملية التنقيب في البلوك 4، انتشر فيروس “كورونا” في لبنان والعالم. وما إن انطلق العمل في البلوك 9 في آب الماضي، حتى بدأت عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول الفائت. ما يعني أنّ الحظوظ لم تكن في مصلحة لبنان في أي مرّة.
هل أخطأ لبنان في قبول الترسيم؟
وبعد كلّ ما يجري في قطاع الغاز والنفط، وما يبدو عليه بأنّه مخطّط للبنان بأن لا يتفجّر أي ثروة نفطية من بلوكاته البحرية في المرحلة الراهنة بأوامر وضغوطات أميركية، ثمّة من يتساءل: هل أخطأ لبنان في التوقيع على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع “إسرائيل”، ما دامت ستبقى المستفيدة الأولى والأخيرة منه؟ تجيب المصادر بأنّ الهدف من إثارة مسألة الحدود البحرية لأنّ الإنتاج من حقل “كاريش” كان قريباً، لكنّ لبنان استفاد من هذه الإتفاقية إذ بات لديه خطّاً أولاً، وإتفاق تحته ثانياً.
ولكن المنع لا يزال قائماً ولم يُرفع بعد، على ما تابعت المصادر، في حين أنّ الشرط الأساسي كان أن تعمل “إسرائيل” من جهتها، ويعمل لبنان من جهته. في حين نجد اليوم أنّ المماطلة التي تحصل من قبل “توتال”، يجب أن تضع الراعي الأساسي لهذا الإتفاق أي الولايات المتحدة الأميركية تحت المجهر، وتحت المساءلة حول: لماذا لم يتمّ الإلتزام بما جرى الحديث عنه، وأصبح إتفاقاً مكتوباً بأنّ العمل سيحصل من الجهتين؟ لماذا هذا التراجع؟ ولماذا لا تدعو “توتال” بالتالي لأن تكون أكثر تجاوباً مع طلبات الدولة اللبنانية بتسريع نمط الإستكشاف؟ الواضح أنّه لا يزال هناك منع بهدف استخدام هذه الورقة خلال التفاوض في المرحلة المقبلة، لكن هذا لا يُبرّر في الوقت نفسه أداء “توتال” غير المنطقي.
أسباب التأخير
وعن أسباب التأخير في عملية التنقيب والإستكشاف في الحقول اللبنانية الحدودية، أكّدت المصادر نفسها أنّ السبب الرئيسي يعود الى التشابك في الحقول في البلوكين 8 و10 أيضاً، وليس فقط في البلوك 9. لهذا تريد الشركات إعطاء أفضلية “الداتا” للعدو الاسرائيلي قبل حصول لبنان على أي “داتا”. وهذا التماهي واضح.
أمّا لبنان فلم يعد يملك ترف الوقت، تؤكد المصادر، لهذا وضع الشروط على “توتال” بتقصير المدّة الزمنية للإستكشاف، أمامه 7 أسابيع من بعد تقديم العروض حسب دفتر الشروط، وعليه رفع تقرير الى مجلس الوزراء فيُوافق عليه أو يرفضه. وقد قام بتمديد هذه المدّة مرتين لأنّه كان يُفاوض “توتال” لتعديل عرضها، لكنها أصرّت ولم تُوافق. فقامت هيئة إدارة قطاع النفط ووزارة الطاقة برفع التقرير كما هو الى مجلس الوزراء مع الشروط المقبولة للقبول بالعرض لتلزيم البلوكين 8 و10، فتمنّعت شركة “توتال”. وثمّة إحتمال كبير أن تكون “توتال” موعودة من بعض الجهات الرفيعة، بأنّه يُمكنها أخذ الوقت الذي تريده، وعندما تُصبح جاهزة تُعطى البلوكين 8 و10. فكلّ شيء يُمكن أن يحصل في لبنان.
أمّا طلب إلتزام “توتال” فقد انتهت مدّته في 16 شباط الجاري، للمجيء والتوقيع على عرض لبنان، أو على الأقلّ طلب تمديد المهلة، غير أنّها التزمت الصمت رغم تقديمها للعرضين في البلوكين 8 و10. وهذا السكوت، يعني أنّ ثمّة قرارا كبيرا بعدم مجيء “توتال” أو تأجيل ظهور نيّتها بالقدوم. لهذا أصبحت المصادر ميّالة أكثر الى أنّ الأسباب هي سياسية أكثر ممّا هي تقنية، من أجل استخدام هذا الملف مجدّداً في الحلول، أو الصفقة الشاملة التي ستجري في المنطقة.
وحالياً، يمكن القول بأنّ مفاعيل دورة التراخيص الثانية قد انتهت، وتلزيم البلوكين 8 و10 سقط بتمنّع “توتال” عن التوقيع، أو طلب مهلة للتمديد، ما يعني أنّهما أصبحا معروضين في دورة التراخيص الثالثة المفتوحة منذ كانون الاول الماضي والتي تنتهي في 2 تمّوز المقبل. وإذا أرادت “توتال” وشركاؤها تقديم طلب جديد بحسب دفتر الشروط، تستطيع القيام بهذا الأمر. أمّا أن يُصار الى القبول مجدّداً بعرض “توتال” الأخير لسبب أو لآخر، فهذا الأمر يُعتبر “عمل خيانة”، فبغضّ النظر عن أنّ لبنان بلد منهار ومأساوي إلّا أنّ له كرامته، سيما وأنّ “توتال” لم تحترم سيادة الدولة، ولم تقدّم عرضاً ينسجم مع دفتر الشروط، في حين أنّ لبنان قام بتعديل دفتر الشروط بهدف قبول العرض. ووضع الشروط التي تناسبه وتناسبها أي لكي تنسجم مع عرض “توتال”، رغم ذلك لم تُوافق.
ولهذا، فإنّ أكبر خطأ يقوم به مجلس الوزراء اليوم هو إعادة القبول بشروط “توتال” بطريقة أو بأخرى. وإذا لم تُقدّم عرضاً جديداً منطقياً في دورة التراخيص الثالثة مع دفتر الشروط فإنّ عرضها يجب أن يُرفض.
الضغوط على الشركات
وعن الضغوطات التي مورست على الشركات النفطية التي كانت مهتمّة بالإستثمار في البلوكات البحرية اللبنانية، بعد أن كان عددها 52 شركة في دورة التراخيص الأولى ووصلت في الثانية الى 3 شركات فقط، هي عبارة عن الكونسورتيوم، تقول المصادر، بأنّ لبنان لا يترك فرصة لتحفيز الشركات إلّا ويستفيد منها من خلال المؤتمرات الدولية. ولكن المانع الكبير هو الضغوطات السياسية من قبل أميركا. ويُشكّل إخراج شركة “نوفاتيك” الروسية من التحالف وحلول “قطر إنرجي” مكانها، دليلاً واضحاً عن هذه الضعوطات التي تُفرض على الشركات. مع الإشارة الى أنّ هذا الأمر حصل بعد أزمة أوكرانيا.
وذكّرت المصادر بأنّ لبنان بدأ في العام 2013 بـ 52 شركة مهتمّة ومقدّمة تأهيل ومؤهّلة مسبقاً للمشاركة في دورة التراخيص الأولى. غير أنّ الملف توقّف لمدة 4 سنوات، أي حتى العام 2017 بسبب النكد السياسي، وبقيت 17 شركة مهتمة مع إطلاق دورة التراخيص الأولى للمرة الثانية، وتقدّمت بعروض. وقد خسر لبنان حماس الشركات بسبب الخلافات الداخلية، فضلاً عن موضوع صفقة القرن التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب آنذاك، وبدأ يحدّد لكلّ دولة ما الذي يجب عليها القيام به ومن ضمنها لبنان وفلسطين والأردن ومصر. وأخذ لبنان موقفاً سيادياً بأنّه هو من يقرّر ما الذي يريد فعله، وبأنّه يريد التنقيب عن النفط، ويعيد النازحين الخ.. وقد أعلن الموقف الرئيس ميشال عون في الأمم المتحدة في حضور ترامب الذي بدا منزعجاً. بعدها بدأ لبنان يدفع الثمن، ومن ثمّ أتى القرار بسقوط لبنان كونه رفض السير في الصفقة.
“توتال” تخضع للاوامر الاميركية
وفي السياق العام، أكّدت المصادر أنّ لبنان اليوم تحت ضغط أو حصار أميركي من الجهات كافة، يُضاف اليه موضوع الحرب الدائرة حالياً في قطاع غزّة وفي جنوب لبنان. وإذا لم يكن هناك من إرادة أميركية فعلية لفكّ الحصار المفروض عليه نفطياً، فإنّ الشركات العالمية لن تتجرّأ على المجيء. حتى “نوفاتيك” الروسية أُجبرت على الإنسحاب من الكونسورتيوم.
من هنا، إذا لم يستخدم لبنان نقاط القوة التي يملكها اليوم لرفع الحصار النفطي والمنع المفروض عليه باستكشاف النفط والغاز في بلوكاته البحرية، من خلال طلب أن يكون ملف توازن الرعب بين حزب الله و”إسرائيل” على الطاولة موضوعاً للنقاش في أي تسوية مقبلة، وبطلب مباشر من أميركا بأنّه عليها الإلتزام بوقف هذا المنع، لا نكون قد استفدنا إيجاباً مما حصل. فمن الواضح أن هناك، منع وحصار وضغوطات، وهنا العامل السياسي. والواضح هو أنّه ليس أنّ شركة “توتال” أخفت نتيجة حفر البئر، إنّما هي اختارت الحفر في البئرين الخطأ، وعن قصد. ليس الموضوع تافهاً الى هذه الدرجة لتقوم بتغيير النتائج، ولكنها منذ البداية تعلم ما عليها فعله، وهذا ما قامت به. حفرت في هذين البئرين لكي لا تجد نفطاً أو غازاً.
وكشفت المصادر المطّلعة بأنّ للدول الأميركية حصصاً في شركة “توتال”، ما يعني أنّ هذه الأخيرة تخضع للأوامر الأميركية، ولا يمكنها التهرّب من هذا الأمر. لا تستطيع القول لا إذا قال الأميركي لشركة “توتال” “إذهبي الى لبنان واحفري ثلاثة آبار” تأتي غداً. وإذا قال لها “إحفري ولا تجدي نفطا” تعلم ما عليها القيام به. فيما الأموال التي تضعها كلفة الحفر، وإن كانت تصل الى 80 أو 100 مليون دولار، لن تُشكّل مشكلة لها. “توتال” لديها علاقة وثيقة بالسياسة الأميركية، ولا يُمكنها إلّا أن تلبّي مطالبها، لأنّ ثمّة أوراق ضغط كبيرة عليها.