شغل التقرير المتعلّق بنتائح الحفر في البلوك الرقم 9 الأوساط المتابعة للشأن البترولي في الفترة الأخيرة، بحيث استقطب نقاشات عدّة اقتربت في غالب الأحيان من التسييس كما يحصل عادةً في مختلف المواضيع المثيرة للجدل في لبنان، خصوصاً في ما يتعلّق بالمهلة القانونيّة لتقديم التقرير، واللغط الذي حصل في هذا الشأن. فما هو التفسير القانوني لهذه الإشكاليّة؟
التقرير لم يُسلَّم حتى اللحظة
بداية، تجدر الإشارة إلى أنّ «توتال إنيرجيز» قد أنهت أمس الأوّل الخميس زيارة للبنان دامت ثلاثة أيام، بحيث كانت موجودة في إطار مهمّة خاصة لإدارة سلسلة مناقشات ومحادثات مع الدولة اللبنانية لم يُعرف مضمونها بعد.
وبالعودة إلى التقرير الجيولوجي والتقني، لم تسلّمه الشركة الفرنسية المشغّلة في البلوك الرقم 9 حتى اللحظة. فهي أبلغت إلى الدولة اللبنانية أنّها لم تنتهِ بعد من إعداده، إذ ما زال العمل عليه جارياً، لكن من المفترض تسليمه عاجلاً أم آجلاً، مع العلم أنّه لن يغيّر في نتيجة الحفر. تقنياً، من المهمّ الإطلاع على التقرير، لأنّ هناك جوانب عدة يجب درسها كونه يحتوي على أقسام متفرقة جيولوجية وجيوفيزيائية وبتروفيزيائية تتطلّب خبراء من إختصاصات عدة.
فهل يتمّ ربط التقرير بالسلّة المتكاملة للحل التي تطرحها فرنسا من خلال موفدها لودريان؟ وهل ستنتظر فرنسا نتائج الإنتخابات الأوروبية التي ترجح غالبية الإستطلاعات تقدّم أحزاب اليمين؟ وكيف ستكون مقاربتها لملف النفط والغاز في لبنان في حال فوز اليمين في الإنتخابات؟
السند القانوني لمهلة الـ 6 أشهر
إستندت الدولة اللبنانية على المادّة 101 من المرسوم الرقم 10289 للعام 2010 (الأنظمة والقواعد المتعلّقة بالأنشطة البتروليّة) وذلك كإسناد قانوني لتحديد المهلة التي من المفترض على الشركة المشغّلة الإلتزام بها لتقديم التقرير النهائي المتعلّق بنتائج الحفر والمحدّدة بحسب المادة المذكورة بـ6 أشهر من تاريخ إنتهاء عمليّات الحفر. فقد جاء في النص «على صاحب الحق أن يقّدم إلى الوزير (أي وزير الطاقة والمياه) مع نسخة إلى هيئة إدارة قطاع البترول تقريراً نهائياً جيولوجياً وتقنياً حول المكمن في ما يتعلّق بكل بئر أو مجرى بئر، وذلك في مهلة لا تتجاوز ستة (6) أشهر بعد اكتمال كل عمليّة حفر أو نشاط مرتبط ببئر».
وذلك على الرغم من النقاش القانوني الذي تطرحه المادّة 10 من إتفاقية الإستكشاف والإنتاج (أي العقد البترولي) الخاصة بالبلوك الرقم 9 لناحية تحديد المهل القانونية في هذا المجال، والتي أتت تحت عنوان «نتائج الإستكشاف والتقويم»، فقد أشارت المادّة المذكورة صراحة إلى خضوعها لأحكام قانون الموارد البترولية في المياه البحرية الرقم 132 كما ولأحكام مرسوم الأنظمة والقواعد المتعلقة بالأنشطة البترولية الرقم 10289. وفي النتيجة، فقد أتى الإستناد القانوني للدولة اللبنانية على المرسوم 10289 المذكور لحسم الأمور ولتلافي أي إلتباس في هذا الشأن.
تحديد تاريخ إنتهاء الحفر
تحتّم الممارسة الصناعية «Industry Practice» على المشغّل خلال عمليات الحفر، الإبلاغ الى وزير الطاقة وهيئة إدارة قطاع البترول فور حصول أي إكتشاف. أمّا عمليّة تحديد ما إذا كان هذا الإكتشاف هو تجاري أم غير تجاري فلا يمكن تبليغها فوراً لأنّها بحاجة إلى وقت للتثبّت منها. فالتقرير النهائي لنتائج الحفر يجب أن يُقدّم كما ذكرنا أعلاه ضمن مهلة 6 أشهر من تاريخ إنتهاء الحفر.
وفي حالة البلوك الرقم 9، تاريخ إنتهاء الحفر كان فضفاضاً بعض الشيء «Floating». بمعنى أنّ إنتهاء عمليات الحفر في البلوك 9 تمّ في 13 تشرين الأول 2023، إلّا أنّ «توتال إنيرجيز» حاولت دفع تاريخ إنتهاء الحفر شهراً إلى الأمام من خلال الإعلان عن أنّها أخذت وقتاً يقارب الشهر لإنهاء إجراءات تسكير البئر وتركه «Plug and Abandon Procedure» التي انتهت في 15 تشرين الثاني 2023.
إستبعاد إجراء سحب الرخصة
بالتأكيد «توتال إنيرجيز» تأخّرت في تقديم التقرير على رغم من رسائل التذكير المتكرّرة التي تلقّتها من الدولة اللبنانية بوجوب تقديمه. ففي هذه الحالة ما هو الحل؟
من الناحية القانونية، إنّ إجراء سحب الرخصة أو إلغاء الترخيص «Revocation of the Licence» لا يمكن أن يتمّ إلّا في حال حصول مخالفات وخروقات عدة متكرّرة خارجة عن نطاق «أسباب القوة القاهرة». لكن التوجّه لدى الدولة هو باستبعاد إجراء كهذا. بطبيعة الحال، وفي ما خصّ الطبيعة التعاقدية التي تجسّدها حالة البلوك الرقم 9 فإنّ البت بمختلف الأمور يعود إلى طرفي العقد، أي الدولة اللبنانية وإئتلاف الشركات المكوّن من «توتال إنيرجيز» و»إيني» و»قطر للطاقة». لكن هذا الموضوع لا يعفي الشركة الفرنسية من مسؤولياتها.
لماذا توقف الحفر على عمق 3,906 أمتار؟
توقف الحفر في البلوك الرقم 9 على عمق 3,906 أمتار تحت قاع البحر، مع العلم أنّ العقد البترولي ينص على أنّه يجب حفر بئر الإستكشاف بعمق لا يقل عن 4,400 متر العمق العامودي من قاع البحر. فما هو التفسير العلمي لهذا الأمر؟
عادةً يتمّ تحديد عمق نظري «Theoretical Depth» يجب الوصول إليه كـ «Indication»، لكن تطبيقياً وفي حالة البلوك الرقم 9 وبمجرّد إكتشاف مياه في المكمن فإنّ إكمال عمليات الحفر إلى أعماق أكبر لن تنفع في شيء وبالتالي لن تكون هناك حاجة للحفر الإضافي، لأنّ المياه أثقل من الغاز، ففي حال وجود غاز فهو إذاً يجب أن يطفو على سطح المياه. لكن هذا الموضوع يبقى ضمن التقديرات وجب إثباته، وهنا تكمن أهمية التقرير الذي يُنتظر ان تقدّمه «توتال إنيرجيز» لأنّه يعطي الدلائل لما حصل في عمليات الحفر.
إكتشاف مكمن يحتوي على المياه
عند إندلاع حرب غزة لم تعد الشركة الفرنسية تبدي رغبتها بالتواصل مع الدولة اللبنانية لمتابعة أمور البلوك 9 الذي تبيّن عدم وجود إكتشاف فيه، مع الإشارة إلى أنّه تمّ العثور على آثار الغاز، وهذا تطوّر إيجابي وحقيقي. فاليوم تمّ إثبات دلائل على وجود الغاز، وذلك من خلال المتابعات اليومية للدولة اللبنانية لعمليات الحفر والتي أكّدت وجود التركيبات الكيميائية الخاصة بالغاز الطبيعي.
عمليات حفر البئر في البلوك الرقم 9 أدّت إلى إكتشاف مكمن يحتوي على المياه «Water Bearing Reservoir». فالإيجابي في الموضوع أنّه تمّ إكتشاف مكمن لكن لم يتمّ معرفة ماذا حصل داخل المكمن ولماذا يحتوي على المياه. فعلى ما يبدو أنّ الترجيحات تشير إلى أنّه كان هناك غاز وتبخّر مع مرور السنين وحلّت مكانه المياه نتيجة الضغط الحاصل، إلّا أنّ هذه الترجيحات في إنتظار التقرير لتأكيدها أو نفيها.
البلوك 9 ودورة التراخيص الثالثة إلى أين؟
تنتهي مرحلة الإستكشاف الأولى في أيار 2025، وفي هذا الإطار وجب على إئتلاف الشركات وقبل ثلاثة أشهر من إنتهاء المدّة المذكورة، تبليغ الدولة اللبنانية بما سيفعله في البلوك القم 9. إن لناحية إستكمال نشاطه في البلوك وبالتالي الدخول في مرحلة الإستكشاف الثانية التي تتطلّب سلسلة موجبات على رأسها حفر آبار جديدة، أو لناحية التخلّي عن البلوك نهائياً كما حصل في البلوك الرقم 4. لكن هذا الموضوع يجب النظر إليه من ناحية إرتباطه بالبلوكين 8 و10 وما ستؤول إليه المحادثات في هذا الشأن.
مع الإشارة إلى أنّ دورة التراخيص الثالثة التي تنتهي في الثاني من تموز 2024، لا تشهد إقبال الشركات البترولية العالمية. فهذا أمر طبيعي بسبب غياب الإهتمام حالياً بقطاع البترول اللبناني، خصوصاً بعد حرب غزة وتصاعد حدّة النزاعات العسكرية في المنطقة، وبالتالي فإنّ التوجّه هو لتأجيلها مرة أخرى. إذ إنّ العامل الجيوبوليتيكي يلعب دوراً كبيراً خصوصا بالنسبة إلى البلوكات الجنوبية، في إنتظار الحل الداخلي والخارجي.
فهل سينتصر حكم القانون هذه المرّة على السياسة ويبقى العقد شريعة المتعاقدين؟