في بلدٍ غارقٍ بأزمة اقتصادية ونقدية، ومهدّد أمنياً بحرب من غير المعروف متى تتوسَّع لتخلِّفَ دماراً إضافياً، وتعيد إلى السوق انقطاع المواد الغذائية وارتفاع أسعارها، لا تكترث السلطات المعنية بتحديث نظام التخليص الجمركي الإلكتروني. فهذا النظام يتعطّل مراراً ويجمِّد معه عملية تخليص البضائع في المرافىء والمعابر البرية والبحرية والجوية، الأمر الذي يهدِّد بتراكم البضائع وزيادة أكلافها وتسريع عملية إخراجها نحو المخازن قبل توزيعها إلى السوق.
وفي وضع استثنائي كالذي يمرّ به لبنان، فإن توقُّف العمل بالنظام الالكتروني، يوم أمس الإثنين، وترجيح توقّفه في أي وقت، ليس بالأمر المحبَّذ، إذ أن استغلال ذلك سيحصل سريعاً وسينعكس على توفير الإيرادات المالية للدولة وتوفير السلع للمواطنين بالكميات والأسعار المناسبة. فما الذي حصل، وما هي انعكاساته على السوق والمواطنين؟
توقُّف “مفاجىء” وتجاهُل للإصلاح
نظراً لأهمية انتظام عملية التخليص الجمركي سيّما في الظروف الراهنة، أوعزَ وزير المالية يوسف الخليل، يوم الثلاثاء 30 تموز الماضي، إلى مديرية الجمارك بـ”القيام بالإجراءات المضاعفة وعلى مدار الساعة من أجل تسريع عمليات تخليص البضائع في مرفأيّ بيروت وطرابلس وفي المطار، لا سيما كل ما يتعلق بالمواد الاستهلاكية الغذائية بغية تفادي أي تأخير في ظل المستجدات الراهنة”. وفي اليوم عينه، وجَّهَت نقابة مستوردي المواد الغذائية “نداءً عاجلاً للوزارات والإدارات المعنية، ناشدتها فيه اتخاذ إجراءات إستثنائية وسريعة لتعجيل تخليص معاملات السلع الغذائية المستوردة الموجودة في مرفأ بيروت وتسليمها الى أصحابها تمهيداً لتخزينها في المخازن في الداخل اللبناني بعيداً من أي مخاطر، وذلك من أجل الحفاظ على الأمن الغذائي للبنانيين”.
لم يحصل شيء على مستوى الإجراءات المطلوبة وأوّلها ضمان سلامة النظام الجمركي الإلكتروني. فأكّد رئيس نقابة الوكلاء البحريين مروان اليمن، أن النظام توقَّفَ يوم أمس “لكنه عاد إلى العمل في اليوم عينه”. وفي حديث لـ”المدن”، أشار اليمن إلى أن توقُّف النظام يعود إلى “وضعه المترهِّل. فهو بحاجة إلى صيانة وتحديث، إذ لا يزال متخلّفاً مقارنة مع البرامج الحديثة الموجودة في الدول التي تعتمد هذا النظام”. ويلفت النظر إلى أن “الحاجة لتطويره سابقة للأزمة الاقتصادية وتفجير مرفأ بيروت. ومع الأزمة والتفجير، بات كل شيء يحصل عبر الترقيع”.
ولا يبدو أن التحرّك سيكون سريعاً لتطويره. ولذلك، يرى اليمن أن عدم تطوير النظام يضع لبنان “خارج الزمن، ويزيد احتمالات حصول مشاكل في تخليص البضائع“.
التأثيرات المباشرة لتوقُّف النظام الإلكتروني، التُمِسَت سريعاً في مرفأ بيروت، عن طريق توقُّف عملية تخليص البضائع وارتفاع منسوب التوتُّر بين الوكلاء البحريين والمخلّصين الجمركيين وأصحاب البضائع وسائقي الشاحنات إذ أن تخليص البضائع عبارة عن سلسلة تشترك ضمنها جهات عدّة “وكلّما تأخّرت التخليص، تزداد الرسوم التي ستُدفَع، من رسوم المرفأ والأرضية والشاحنات وغيرها”. ولا تنحصر التداعيات بتأخير تخليص البضائع وزيادة أكلافها. فبالنسبة لليمن “بهذه الحالة يتم ضرب انتاجية البلاد في هذه الظروف، من خلال هدر الوقت فيما دفع الرسوم مستمر”.
كما التوقُّف حصل فجأة، كذلك عاد النظام الإلكتروني للعمل فجأة “ولم نعرف كيف توقَّف وكيف عاد وما هي المشكلة بالتحديد”، وفق ما يقوله اليمن الذي يعتبر أن إصلاح النظام “يحتاج نحو 2 مليون دولار، وهي كلفة ليست كبيرة جداً مقارنة مع ما تأتي به الجمارك من إيرادات للدولة. لكن وزارة المالية تأخذ الإيرادات نحو الخزينة العامة وتوظّفها في دفع الرواتب والنفقات الأخرى، ولا تقوم بإصلاح النظام الإلكتروني. علماً ان خبراء أجانب أوصوا بعدم القدرة على الاستمرار بهذا الوضع”.
علامات الاستفهام حاضرة
“هي قصة إبريق الزيت”، تقول مصادر متابعة للملف في حديث لـ”المدن”. ولأنها متكرِّرة، لا تقتنع المصادر بـ”وجود أمر عادي”. وتشير إلى أن “الجمارك هي أكبر قنوات إدخال الإيرادات للدولة، خصوصاً عبر استيفاء الضريبة على القيمة المضافة TVA ولذلك، ليس من المفترض التساهل مع توقُّف العمل بالنظام الإلكتروني إلاّ إن كان هناك ما يُفتَرَض تمريره، خصوصاً في مرفأ بيروت الذي تمرّ عبره نحو 75 بالمئة من تجارة لبنان الخارجية”. وتزداد الشكوك مع “عدم الإبلاغ عن أعطال في باقي المرافق مثل المطار ومرفأ طرابلس ونقطة المصنع الحدودية وغيرها. فنظام تخليص البضائع الإلكتروني هو نظام موحَّد ومترابط، وإذا تعطَّل لسبب ما، تتوقَّف عملية التخليص في كل المرافق”.
وتقول المصادر أن تعطُّل نظام التخليص قد يحصل بشكل طبيعي سيّما وأنه نظام إلكتروني، لكن “تتحوَّل الأنظار نحو وجود علامات استفهام وأمور غير طبيعية، حين تتكرَّر الأعطال خلال أشهر وسنوات ولا يتم إجراء التحديثات المطلوبة”. وتدور الشبهات حول “احتمالات وجود بضائع معينة يُراد إدخالها بصورة غير قانونية أو التلاعب بنوعيات أو كميات معيّنة من البضائع. لكن ذلك لا يمكن إثباته إلاّ بواسطة أدلة قاطعة، وهذا أمر غير يسير في لبنان لأن الفساد متغلغل في كل مفاصل الدولة. في حين أن مكافحة الفساد تقتضي إصلاح النظام الجمركي”.
وتؤكّد المصادر أن “استمرار الأعطال في النظام الجمركي، يعني أن توفُّر المواد الغذائية في السوق سيتأثَّر بسبب توقُّف عملية تخليص البضائع. وفي الظرف الراهن، يحتاج البلد إلى توفير أكبر قدر من المواد الغذائية والبضائع الأساسية في المخازن وفي السوق. علماً أن مَن يستغِلَ الأزمات، ينتظر فرصة كهذه لرفع الأسعار وتقنين وصول السلع إلى المستهلكين. وإذا نحّينا النوايا السلبية جانباً، فإنه من الضروري تسهيل خروج البضائع من المرافق لتفادي أي عرقلة قد تفرضها توسيع الحرب وقصف الطرق وعرقلة سير الشاحنات”. بالتوازي، فإن تعطيل النظام الجمركي “يؤثِّر سلباً على تصدير البضائع اللبنانية“.
مَرَّ تعطُّل النظام الإلكتروني مرور الكرام. فتوقَّفَ فجأة وعاد للعمل فجأة. لكن ما الذي يمنع توقُّفه لفترة زمنية تعيق تحرير البضائع وتتيح تمرير المخالفات “بصورة قد تشعِل البلد بأسعار وتلاعبات تتيحها ظروف الحرب والأزمات؟ لا شيء يمنع”.