لا تزال مؤسسة كهرباء لبنان غارقة في مستنقع ملف تثبيت جميع المياومين، رغم حاجتها لما يزيد عن عددهم. وعدم إنهاء ملف المياومين لا يعود إلى صعوبات يستحيل إيجاد مخارج لها، بل إلى رغبة لدى الأطراف السياسية وبعض “كبار” المياومين المستفيدين، بإبقاء الوضع على حاله. فهل بقاء عدد كبير من المياومين من دون تثبيت، أصبح أمراً أبدياً لا مهرب منه؟
عدد المياومين غير محسوم
لم تعمد مؤسسة الكهرباء يوماً إلى تبيان عدد المياومين بشكل صريح، إذ بقيَ العدد رهن الغموض لتسهيل التلاعب بالملف، رغم سهولة التعداد لو كان القرار موجوداً. ومع تثبيت جزء كبير من المياومين في العام 2016 بمباريات أجريت عبر مجلس الخدمة المدنية، بقي كثيرون في عِداد “الفائض”، أي نجحوا بالمباريات لكن لم تجد لهم المؤسسة مكاناً لإدخالهم إلى ملاكها، فتلقّوا وعوداً بالتثبيت حالما يُتاح ذلك. وينتظر المياومون المودَعون في خانة الفائض إجراء مباريات أخرى لتثبيت زملائهم من باقي المياومين، تريدهم المؤسسة لملء شواغرها “ولا يمكن تثبيت الفائض قبل إجراء المباريات، ولا مباريات قبل إتمام صفقة ما”، تشير مصادر متابعة لملف المياومين.
وملف المياومين يعرقل أيضاً ملف ملء شواغر المؤسسة، إذ لا يمكن إجراء عملية توظيف في المؤسسة عبر مجلس الخدمة، قبل إدخال باقي المياومين، إنفاذاً للقانون رقم 287/2014. مع أن المدير العام للمؤسسة كمال حايك، أرسل كتباً لمجلس الخدمة المدنية، يدعوه فيها إلى إجراء المباريات لأن عدد الشواغر في المؤسسة بات كبيراً جداً. ولا جواب حتى الآن. لكن تقول المصادر في حديث لـ”المدن”، أن هذه الدعوة غير جادّة لأن عقبة العدد تبقى موجودة. ولم تصدر أي مذكّرة إدارية في المؤسسة تحدّد العدد الصحيح للشواغر، بل تمّ تقليص العدد المطلوب. فعلى سبيل المثال، صدرت مذكرة في العام 2009 تلحظ وجود 3200 منصب شاغر من أصل 5300 منصب موجود في المؤسسة، لكن سُحِبَت المذكّرة وأرسلت أخرى إلى مجلس الخدمة المدنية تفيد بوجود 897 مركزاً شاغراً يستدعي التوظيف. ولليوم، لا يُحَدَّد العدد الفعلي للمياومين الموزّعين على المتعهّدين لدى مؤسسة كهرباء لبنان وعلى شركات مقدّمي الخدمات”.
لم يستكن المياومون إلى الضغوط وإخفاء عددهم الفعلي بل “كان هناك محاولات لإحصاء العدد، لكن اصطدمنا بالترهيب والعرقلة داخل الشركات، إذ تم تهديد المياومين الناشطين في هذا المجال. لكن مع ذلك، فإن العدد التقريبي للمياومين هو بين 2000 إلى 2500 شخص، يمكن تثبيتهم جميعاً لأن عدد الشواغر في المؤسسة أكبر بكثير، وهذا ما يؤكّد وجود نوايا واضحة بعدم التثبيت”.
ولاستكمال الفضيحة، “استمرت عملية إدخال مياومين جدد إلى المؤسسة وتوظيفهم في الشركات، فيما لم تُحسَم قضية تثبيت المياومين الناجحين سابقاً، والآخرين الذين لم يخضعوا بعد للمباريات، فلماذا تم إدخال المزيد؟”. وتؤكّد المصادر أنه “جرى إدخال عدد كبير من المياومين في العام 2018 كتنفيعات انتخابية، وهم ينتظرون اليوم تثبيتهم مع الآخرين”.
سياسات تعرقل الحلّ
قضية المياومين ليست حدثاً عابراً يمكن تخطيه بسهولة. بل هو مرتبط بسياسة ممنهجة تقضي بعدم تثبيت المياومين واستعمال ملفّهم لأغراض سياسية من ناحية “وللضغط لفرض تجديد أو تمديد عقود الشركات المتعاقدة مع كهرباء لبنان” من ناحية أخرى. وحسب المصادر، فإن “الشركات تلوِّح للمؤسسة بتحريك ملفّ تثبيت المياومين للضغط عليها لفرض عقود أو شروط تعاقدية معيّنة”. ولم تحمِ المؤسسة نفسها من ابتزاز الشركات عن طريق إنهاء ملف المياومين، بل ساهمت سياساتها في تعميق الأزمة وإعطاء فرصة كبيرة للشركات في مواصلة ابتزازها وتحكّمها في أمور كثيرة في هذا القطاع.
وتتكامل المصالح بين الشركات والسياسيين وكبار النافذين في المؤسسة، عن طريق اعتماد سياسة فرّق تسُد بين المياومين. فتشير المصادر إلى أنه “جرى توزيع المياومين بين المتعهّدين والشركات بحسب النفوذ السياسي لكل حزب في مختلف المناطق، وجرى التضييق على سبل التواصل بين المياومين، حتى إذا كان هناك نوع من التواصل لإجراء أي تحرُّك، تعمد الشركات إلى تهديد المياومين العاملين معها، ويقوم بعض النافذين بتوجيه رسائل للمياومين مفادها أنه إذا كان لديكم مطالب معيّنة، فابحثوها مع المرجعيات السياسية ولا داعي للإضرابات والتحرّكات. وفي ظل التهديد يخاف الكثير من المياومين على لقمة عيشهم، فيرضخون”.
أسلوب آخر يُعتَمَد لإبقاء ملف المياومين عالقاً، وهو التوزيع الطائفي. وهذه الذريعة استُعمِلَت منذ بداية قضية المياومين، سيّما وأن عدد المياومين المسلمين كان يفوق بكثير عدد المسيحيين “وهذه الذريعة لا تزال معتمَدة اليوم، رغم أن عدد المسلمين بات أقل، بل أصبحت غالبية المياومين اليوم من المسيحيين”.
وذريعة أخرى تُساق ضد المياومين، وهي حجّة أن مسألة الفائض سقطت مع مرور الوقت من القانون، لكن المياومين يصرّون على أن “القانون حَفَظَ حقّ الناجحين بالمراكز الشاغرة، وهذا ما يثبته إصرار المدير العام على إدخال المياومين إفساحاً بالمجال لإدخال غيرهم وملء الشواغر”.
الملف سيبقى مفتوحاً
مياومون تركوا عملهم، وآخرون ماتوا، وبعضهم أصيب ومات أثناء تأديته عمله، ولم يدخلوا ملاك المؤسسة. لذلك ترى المصادر أنه “من واجب المياومين اليوم استكمال العمل حتى إجراء المباريات والدخول إلى الملاك”. ومع ذلك، تتخوّف المصادر من الضغط الذي يُمارَس من كل الأطراف “وبمساعدة بعض المياومين النافذين الذين يعملون بتوجيه مسبق من الشركات، لإحباط زملائهم ومنع التحركات الجدية”. والمقلق أن “استمرار رفض تثبيت المياومين، يعني أن أعداداً جديدة ستحال إلى التقاعد وبعضهم قد يموت، الأمر الذي يُنقِص أعداد المياومين وفي المقابل يرفع عدد الشواغر، ما يعني أن المؤسسة ستحتاج أعداداً إضافية، وهذا ما يشكِّل في الوقت نفسه، سبباً جديداً للإسراع في تثبيت المياومين الحاليين، إلاّ إن كان هناك نيّة مبيّتة للتخلّص من أكبر عدد ممكن من قدامى المياومين، بهدف تثبيت آخرين جدد”.
ثقب أسوَد في كهرباء لبنان يُخفي الكثير على مستوى الأعداد الحقيقية للمياومين والنوايا المبيَّتة لملفّهم وملفّات أخرى، وكذلك مستقبل مؤسسة كهرباء لبنان في ظل التدمير المستمر وعدم تأهيل المبنى المركزي الذي تضرَّرَ جرّاء تفجير مرفأ بيروت، وأيضاً عدم إجراء عمليات الصيانة للشبكات والمعامل وغرف التحويل… وغير ذلك من الملفّات التي تجعل المياومين يدركون أن قضيّتهم ليست سهلة وليست منفصلة عن إطار عام يدمِّر المؤسسة. لكن مع ذلك، القضية ستبقى مفتوحة. إذ تؤكّد المصادر أن “هناك تحضيراً لعملية إحصاء لعدد المياومين، وسيُرفَع العدد إلى مجلس الخدمة المدنية وسيُنشَر في الإعلام وسنضع الجميع أمام مسؤولياتهم، وإذا لم يتحرّك مجلس الخدمة لإجراء المباريات، ستصبح المشكلة معه بشكل مباشِر، من دون إعفاء الآخرين من مسؤولياتهم”.