“ثلاثاء” الكابيتال كونترول: رصاصة الرحمة لمسار التعافي المالي

بخلاف ما يعتقد معظم المتابعين، لا يمثّل الجانب المرتبط بحقوق المودعين –على أهميّته الشديدة- أخطر ما في إقرار الكابيتال الكونترول بالصيغة المطروحة اليوم، والتي دُعيت اللجان المشتركة لمناقشتها الثلاثاء 30 آب. فخطورة هذه الصيغة باتت تطال مسار التعافي المالي بأسره، واحتمالات الدخول في مرحلة النهوض الاقتصادي، ما يعني أن تمرير مشروع القانون هذا سيمثّل ضربة موجعة لمصالح جميع المقيمين في البلاد، لا المودعين فقط. فعمليّا، سيؤدّي تمرير مشروع القانون إلى تطبيع الوضع الراهن وقوننته كما هو، وترك المجتمع يدفع كلفة السقوط الاقتصادي الحر، بدل فرض التعامل مع الانهيار والخسائر بخطّة تعافٍ فعليّة. وإذا حصل ذلك، سيكون مجرّد خطوة أخرى باتجاه ترك جميع المقيمين في هذه البلاد رهائن، بيد منظومة سياسيّة ونخبة ماليّة تعمّدا الإطاحة بكل شروط الحل كرمى لمصالحهم الخاصّة، تمامًا كما أشار البنك الدولي في تقريره الأخير.

من المؤكّد أن وضعيّة الودائع القانونيّة ستتأثّر سلبًا بالكابيتال كونترول، لكن سيخطئ اللبنانيون إذا تعاملوا مع مشروع القانون هذا بوصفه معركة تخصّ المودعين وحدهم، وسيدفعون أثمانًا باهظة جدًا إذا سمحوا بإقرار القانون من دون الاستماتة في سبيل منع ذلك. وسيعرف الجميع لاحقًا أن إعطاء الغطاء التشريعي الذي تطلبه “مصارف الزومبي” اليوم، من دون إقرانه بإقرار قوانين خطّة التعافي، سيعني منح صك براءة يعفي المصارف والسياسيون من استحقاق التعامل مع الخسائر وإعادة هيكلة القطاع المصرفي. والهروب من هذا الاستحقاق بالتحديد، كان العنوان الذي لأجله أسقط السياسيون والمصارف كل مسارات الحل المالي منذ أواخر 2019، ما فاقم من تدعيات الأزمة وزاد من أكلافها على المجتمع، فكيف الحال بعد أن ينال هؤلاء العفو المالي الشامل الآتي بإسم “الكابيتال كونترول”؟ وأي تداعيات سيحملها البقاء في مرحلة السقوط الحر؟

أي كابيتال كونترول لأي خطّة؟

لنفهم خطورة الموضوع، من المهم الإشارة إلى أنّنا سنخطئ إذا وصّفنا الكابيتال كونترول كشر مطلق، أو خطوة سيّئة من حيث المبدأ. بل وعلى العكس تمامًا، لا يمكن لأي خطّة تعافٍ مالي أن تدخل حيّز التنفيذ إذا لم تقترن بكابيتال كونترول يعطي الدولة أدوات ضبط السيولة المتبقية في النظام المالي والمجتمع ككل، بما ينسجم مع أولويّات الخطّة نفسها. فهذا القانون، هو أداة السياسة النقديّة في مسار توحيد أسعار الصرف، وتحديد أولويّات استعمال العملة الصعبة التي يتم استخدامها في نظام القطع. وهذا القانون هو الذي يحدد كيفيّة التدرّج برفع القيود عن المودعين، خلال الانتقال التدريجي من حالة امتناع المصارف عن الدفع، أي حالة “المصارف الزومبي”، إلى حالة الانتظام المصرفي. بمعنى أوضح، يتصل الكابيتال كونترول بكل مسارات التعافي المالي في الوقت نفسه: من توحيد أسعار الصرف، إلى قانون إعادة هيكلة المصارف، وحسب عمليّات التدقيق في ميزانيّات المصارف ومصرف لبنان…إلخ.

لم يكن اللبنانيّون بحاجة لاختراع البارود كي يتقنوا فعل ذلك. فعناوين كل مسارات التصحيح المالي حددها صندوق النقد لهم في إطار التفاهم المبدئي المعقود على مستوى الموظفين مع لبنان. وخطّة التعافي المالي، التي لقّمتها بعثة الصندوق للوفد اللبناني المفاوض، نصّت على كل هذه المراحل. وكان من المفترض أن ينجز لبنان وضع القوانين التطبيقيّة لإطلاق هذه الخطّة قبل شهر أيلول، للتمكن من الدخول في الاتفاق النهائي مع الصندوق.

كما هو معروف، لم يحصل شيء من كل ذلك. لم يبصر قانون إعادة هيكلة المصارف النور، ولم نشهد مسار توحيد أسعار الصرف، ولم نرَ حتّى نتائج تدقيق ميزانيّات المصارف ومصرف لبنان التي يفترض أن تقود هذه المسارات. ولا يحتاج المرء إلى كثير من الشرح ليستنتج أن كل ذلك يتصل بهروب السياسيين والمصرفيين من استحقاق تحديد الخسائر وتبيان أسبابها والتعامل معها، وبدءًا من رساميل المصارف نفسها، كما يشترط صندوق النقد والمجتمع الدولي. بمعنى آخر، تفرملت خطّة التعافي المالي بأسرها ومسار التفاهم مع الصندوق، تمامًا كما تعثّر ذلك عام 2020، وللأسباب نفسها. مصلحة النافذين سياسيًّا وماليًّا لم تتناسب مع شروط الحل، فأسقطوا الحل، ولو كان ذلك على حساب المضي بأخطر انهيار مالي تشهده البلاد.

هنا، بات الحديث عن الكابيتال كونترول فارغًا وغير ذي قيمة. فكيف بالإمكان صياغة الكابيتال كونترول كأداة، إذا لم نصغ تفاصيل الهدف الذي تخدمه هذه الأداة، أي مسارات إعادة الهيكلة وتوحيد أسعار الصرف وخطة التعافي بشكل عام؟ كيف يمكن أن نفهم نوعيّة الضوابط على السيولة التي نحتاجها، إذا لم نفهم تفاصيل الغاية التي تؤدّيها؟ بل وأساسًا، هل يمكن صياغة هذه القيود من دون أن ننجز حتّى التدقيق الذي يسمح بفهم واقع المصارف ومصرف لبنان، والذي على أساسه يمكن تحديد مستوى القيود المطلوبة؟

الكابيتال كونترول لتطبيع الأزمة بدل حلّها

ورغم انتفاء دور الكابيتال كونترول بانتفاء أهدافه، ورغم الإطاحة بالغالبيّة الساحقة من بنود خطّة التعافي والتفاهم المبدئي مع صندوق النقد، لم تنتفِ حاجة المنظومة السياسيّة والمصارف للكابيتال كونترول. والغاية كما هو معروف: تشريع حبس ودائع ما قبل تشرين الأوّل 2019، وتكريس التمييز بين الودائع القديمة والجديدة، ومن ثم قوننة وتطبيع حالة “المصارف الزومبي”.

هكذا، تصبح غاية الكابيتال كونترول تمكين المنظومة السياسيّة والمصارف من التمنّع عن تنفيذ كل شروط الحل التي يحتاجها مسار التعافي المالي، عبر تشريع الوضع الهجين القائم، وإعطائه صفة قانونيّة. وبعد التمنّع عن سلوك مسار التعافي، عبر المناورات والتحايل، ستكون المصارف في وضعيّة تفاوضيّة أقوى بمجرّد تحريرها من وصمة التخلّف عن السداد للمودعين، طالما أن القانون نفسه أعطاها هذا الحق. وبذلك يدفع الكابيتال كونترول باتجاه معاكس للهدف الأساسي منه: تكريس الوضع المتأزّم، بدل التكامل مع مسارات المعالجة.

وهنا، لن يكون المودع وحده الضحيّة، بعد تشريع حبس وديعته، بل المجتمع بأسره، الذي سيدفع أثماناَ باهظة نتيجة المضي بحالة الانهيار، وكل ما يصاحبها من تداعيات على مستوى تعثّر الدولة وتدهور سعر الصرف وتهاوي الخدمات العامّة وشبكات الحماية الاجتماعيّة. وتمامًا كما دفع المجتمع منذ 2019 هذه الأثمان، سيظل يدفعها طوال الفترة المقبلة، إنما مع كابيتال كونترول يعترف بوضعيّة “المصارف الزومبي” كوضع طبيعي.

تفاصيل مشروع القانون: تشريع الحالة الراهنة

بمجرّد فهم المقاربة الهجينة التي أتت على أساسها مسودّة مشروع القانون، يمكن فهم خلفيّة كل ما ورد فيه من مواد، والتي اقتصرت مفاعيلها على تشريع الحالة الراهنة. فمن الناحية العمليّة، ما الذي يمكن توقعه من مشروع قانون لا يندرج ضمن أي مسار حل، غير تكريس التأزّم الحاصل؟

على هذا النحو، يميّز القانون ودائع ما بعد تشرين الأوّل 2019، التي يملك أصحابها حق السحب والتحويل بلا قيود، مقابل الودائع القديمة التي سيتم تطبيق القانون عليها. وثمّة لجنة ستتشكّل من حاكم مصرف لبنان ووزير الماليّة، وخبيرين وقاضٍ يختارهم مجلس الوزراء، لتملك صلاحيّة تحديد سقوف السحب بالليرة أو الدولار من الحسابات القديمة، بحد أقصى قدره 1000 دولار. كما تملك اللجنة صلاحيّة تحديد الاستثناءات التي يمكن بموجبها التحويل إلى الخارج. وبذلك، يكون القانون قد كرّس استنسابيّة التعاميم التي تحدد سقوف السحب وآلياته، بالليرة والدولار (التعاميم 151 و158)، فيما سيكون على حاكم مصرف لبنان مشاركة هذه الصلاحيّة مع اللجنة بدل صياغة السياسة النقديّة لمصرف لبنان مع مجلسه المركزي. وإذا كان وزير المال وأعضاء اللجنة الآخرين من أصدقاء الحاكم (كحال وزير المال اليوم)، فسيبقى رياض سلامة حتّى نهاية ولايته سيّد التعاميم والبهلوانيّات النقديّة الغريبة.

باختصار، لا يبدو أنّ في مشروع القانون ما يستحق مناقشته، طالما أنّ كل ما فيه يصب في خانة التماهي مع الإجحاف الحاصل بحق المودعين، وطالما أنّه لا يحقق أي غاية أو هدف اقتصادي واضح. بل وطالما أننا لا نعلم طبيعة الهدف الذي يفترض أن يخدمه القانون، بغياب سائر قوانين وأدوات التصحيح المالي والنقدي. وإذا مرّ القانون بصيغته الراهنة، فسيكون حكمًا مجرّد انتصار آخر للقلة النافذة في عالمي السياسة والمال في لبنان، وعلى حساب الغالبيّة الساحقة من اللبنانيين المتضررين من الانهيار.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةالنواب أمام إمتحان “الكابيتال كونترول”… والإخفاق “لا جراحة ولا ترياق”
المقالة القادمةدولة العار: البعثات الدبلوماسية بلا رواتب.. وإضراب تحذيري