السخرية من المصارف وتشبيه مقرّاتها بالسجون، تبقى مجرّد مزحة إلى أن تزور بعض فروع البنوك في بيروت، عندها تتحوّل المزحة الى حقيقة. فبالاضافة الى الحماية الأمنية والمخابراتية المشددة، وزيادة أعداد كاميرات المراقبة، استحدث بعض المصارف أبواباً ذكية، تتّسع لشخص واحد، تفتح أمامه وتُغلق خلفه. وفي الداخل هدوءٌ نسبي، لا يقطعه إلا قلق الموظفين من ردود فعل الزبائن على الإجراءات المقيّدة التي جرى اتّخاذها. العملاء تحوّلوا بين ليلة وضحاها من مرفّهين مدلّلين، الى مجرمين يتوجّب على القوى الامنية التعامل معهم بحزم، لمجرّد أنهم يطالبون بأموالهم.
ردود الفعل على الإجراءات المقيّدة لسحب الاموال وتحويلها، والتصرف بالمدّخرات تتّصف بالسلبية. كيف لا، وهنا من يرى أن جنى عمره تحوّل حبراً على ورق، وهناك من توقفت أعماله، وأصبح عاجزاً عن دفع مستحقاته وتأمين أبسط متطلبات عمّاله. وعلى المقلب الآخر، آلاف الموظفين الذين أصبح تحصيل رواتبهم يتطلّب عشرات الزيارات الى المصرف، بعدما انخفض سقف السحب اليومي من 1000 الى 300 دولار.
تعدّدت أسباب الأزمة، والنتيجة واحدة: إنخفاض حاد في السيولة مع عجز المصارف عن تأمين كميات وافرة من الدولار. البنوك تحولت اليوم إلى مجرد صرّاف آلي، معطّل في كثير من الأحيان، لا يؤمّن الطلبات. وهو ما يطرح عشرات علامات الإستفهام عن قدرة المصارف على الإستمرار، ولأي غرض وبأي كلفة؟ فبدلاً من أن تكون أداة تمويلية، تحوّل دور المصارف الى آلة سحب محدود، بعدما عطّلت جميع الأدوار الأخرى من الإقراض والتمويل والتحويل وغيرها الكثير من الوظائف.
هذا الواقع دفع ببعض الإقتصاديين إلى البحث عن حلول موقتة، تؤمّن استمرارية الأفراد وبعض قطاعات الإنتاج، ريثما تتبلور رؤية شاملة في السياسة والإقتصاد، تنتشل البلد من الهوة التي أُوقع فيها.
رهن الذهب
رئيس مجلس إدارة بنك بيمو BEMO رياض عبجي، وانطلاقاً من المثل الشعبي القائل “خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود” يقترح “رهن إحتياطي الذهب، لتأمين سيولة فورية تحول دون الإنهيار”. الفكرة تقوم على أن لبنان يمتلك إحتياطاً ذهبياً تقدّر قيمته بحدود 12 مليار دولار، وباستطاعة مصرف لبنان رهن هذا الذهب والحصول على تمويل بقيمة 10 مليارات دولار، بفائدة مخفّضة جداً تتراوح بين 2 و 3 في المئة، المبلغ المؤمّن يُعتبر “أكثر من كافٍ لإحداث صدمة إيجابية وإعادة تشغيل الإقتصاد”. وعن خطورة ضياع هذا المبلغ الذي سيدخل المركزي كإحتياطي بالدولار على مصرف لبنان، نتيجة تدهور سعر الصرف وعجز ميزان المدفوعات والميزانية العامة والفساد المستشري، يقول عبجي إن “على مصرف لبنان إقراض الـ 10 مليارات دولار للمصارف بفائدة 5 في المئة، وإصدار تعاميم يجبرها على إقراض المبالغ بفائدة لا تتعدى 7 في المئة للقطاعات الإنتاجية، ولدعم الصادرات الزراعية والصناعية وخلق قيمة مضافة. و”بهذه الطريقة نكون قد أمّنّا السيولة للقطاعات الإنتاجية بفوائد معقولة وحمينا الإقتصاد من آفة البطالة التي تهدد آلاف العمال نتيجة الأوضاع التي يمرّ بها لبنان”.
منصّة لتبادل الدولار
نائب رئيس غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان نبيل فهد إقترح إنشاء منصة تبادل لـ “الدولار”. تقوم الفكرة على أن هناك آلاف الحسابات الجارية بالدولار الاميركي لا يمكن لأصحابها سحبها إلا بمبلغ 1000 دولار في الأسبوع أو أقل، إلا انه يمكن تحويلها دفترياً بسهولة من حساب إلى آخر. وفي المقابل هناك آلاف المؤسسات والأفراد الذين يحتاجون الليرة اللبنانية لتسديد مدفوعات داخلية وأجور وضرائب وغيرها. وهنا يأتي دور منصّة التبادل، فيجري تحويل الدولار من حساب البائع الى حساب المشتري لتسديد مستحقات تجارية مقابل سعر وسطي بصرف الدولار، يحدّد وسطياً بين السعر الرسمي وسعر السوق. وبهذه الطريقة يستفيد الطرفان من المعاملة، فصاحب الودائع بالدولار يحرّر أمواله ويستفيد من الليرة لتسديد التزاماته، والشاري يستفيد من شراء الدولار بسعر مقبول لاستمرار أعماله. وبالتالي، فإن سعر صرف الدولار الثالث الذي تم إنشاؤه سيساعد عدداً كبيراً من الشركات والأفراد كمشترين وبائعي “دولارات الحساب”. كما ستستفيد المصارف نتيجة استمرار الشركات في تسديد ما يتوجب عليها من قروض بالعملات الأجنبية.
وبحسب فهد فإن هذه الطريقة قد تكون فعالة على المدى القصير، إنما قد تصبح عاجزة في حال تعمّق الأزمة واستمرارها. فالمصارف لا تستطيع الشراء ولا البيع عبر هذه المنصة وينحصر دورها كمسهل MATCHMAKER ولا تدخل العمليات في قيود البنك لأن هذا يتطلب إصدار قوانين جدية تحكم علاقة المصارف مع مصرف لبنان.
شطب ديون الدولة
الخبير الإقتصادي منير راشد يرى أن “المطلوب شطب ديون الدولة بالليرة اللبنانية التي يحملها مصرف لبنان”. الفكرة تقوم على أن المركزي يحمل 43 الف مليار ليرة سندات دين على الدولة. وهو دين لا تخدمه الدولة. أي أنها متخلفة عن سداده، ويجري تدوير الديون وإعادة جدولتها عند كل استحقاق. تترتّب عن هذا الدين فوائد تُقدّر بـ 2.7 ألف مليار ليرة، تدخل في الموازنة وتُشكّل عبئاً كبيراً، وبالتالي شطب هذه الديون يُخفّض الدين العام من 129 الى حدود 80 ألف مليار ليرة، ويوفر 2.7 ألف مليار ليرة على الموازنة سنوياً كخدمة دين”.
هذه العملية يجب أن تترافق بحسب راشد مع إجراءين سريعين:
الأول، الأخذ بالحل قصير الأمد للكهرباء، وهو ما يوفر 2.5 الف مليار ليرة.
الثاني، إقتطاع مبالغ كبيرة من النفقات غير الضرورية وتحسين الجباية، وهو ما يوفّر ألف مليار ليرة.
في المحصلة يبلغ التوفير العام في موازنة 2020 بحدود 6.1 آلاف مليار ليرة.
وبرأي راشد “هذه الإجراءات لا توفّر السيولة المطلوبة سريعاً فقط، إنما تُعتبر المدخل الأساسي لعملية الإصلاح المستقبلية، وتضع قطار النهوض بالإقتصاد على السكة الصحيحة”.
المشكلة تبقى أن معادلة شطب الديون في هذه الظروف قد ترتد على الإقتصاد. فشطب ديون الدول لا يكون بجرّة قلم، وما سيتحمّله “المركزي” ومن بعده المصارف التجارية، التي تدخل هذه الديون في موازناتها وحساباتها، سينعكس على المواطنين وودائعهم. هذا وستدفع هذه العملية الى خسارة السندات اللبنانية المزيد من قيمتها نتيجة تدهور الثقة.
الهلع أكبر
الحلول على أهميتها، تبقى في ظل انعدام حسّ المسؤولية عند السلطة، مجرد كلام يعجز عن مجابهة الواقع المأزوم. فجوهر المشكلة، بحسب راشد، هو أن قيمة الودائع التي ما زالت موجودة في المصارف مع إحتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية تُعتبر قاصرة، ليس فقط عن تأمين طلبات المودعين الخائفين، إنما أيضاً عن التدخل لحماية الليرة ودعم ميزان المدفوعات… وهنا الخطورة.
خالد ابو شقرا – نداء الوطن