ثمّة شيء عفن في مصرف لبنان

ثمانية أشهر مرّت منذ مغادرة الحاكم السابق لمصرف لبنان، رياض سلامة، لمنصبه، في خطوة تأمّل كثيرون أن تحمل تغييرًا جذريًا في طريقة إدارة المصرف وملفّاته. ومنذ ذلك الوقت، تم إعطاء “القيادة الجديدة” في المصرف فترة سماح معتبرة، لإثبات جدارتها بتحقيق تغيير من هذا النوع.

مرّت الأيّام ولم نشهد سوى المزيد من الغموض في أرقام المصرف، وفي أدوات تدخّله في سوق القطع. ثم جاءت مجموعة من التطوّرات التي حملتها الأيّام الماضية، والتي أثبتت أن المصرف يُدار بعقليّة رياض سلامة وروحيّته. يربط البعض ذلك بولاء أهم موظفي وإداريي المصرف للحاكم السابق، ولأسراره وطريقة عمله. وثمّة من يحمّل “القيادة الجديدة”، أي الحاكم بالإنابة ونوّابه، مسؤوليّة السير على نهج سلامة. لكن في النهاية: النتيجة واحدة.

في مسرحيّة “هاملت”، وضع شكسبير عبارته الشهيرة: “ثمّة شيء عفن في مملكة الدنمارك”، لوصف حالة التحلّل الأخلاقي العامّة والشاملة، التي حكمت تعاقب الأحداث والمؤامرات في البلاط الملكي. على النحو نفسه، بات هناك رائحة تُزكم الأنوف، في كل ما يرد اليوم من أخبار عن أو من المصرف المركزي، وفي جميع المجالات. ثمّة تحلّل كامل من أي قانون أو معيار أخلاقي، في كل ما يجري. إنّه العفن، حين تسود ثقافة الإفلات من العدالة وحكم القانون، وحين تصبح شريعة الغاب القاعدة، والامتثال للمعايير الأخلاقيّة هو الاستثناء.

فضيحة “أوبتيموم” بانتظار همّة الحاكم بالإنابة

طوال الأيّام الماضية، تركّز السجال على فضيحة شركة “أوبتيموم”، بعدما تسربت صفحة من تقرير أعدّته شركة “كرول”، للتدقيق في أعمال الشركة، ضمن إطار التحقيقات التي تجريها النيابة العامّة الاستئنافيّة في جبل لبنان. 8 مليار دولار من العمولات المشبوهة حطّت في حسابات الشركة، بين عامي 2015 و2018، بموجب “هندسات” أعدها الحاكم السابق رياض سلامة خصّيصًا لهذه الشركة. وهذه الأرباح التي حصدتها “أوبتيموم” في حساباتها الخاصّة، على حساب المال العام، تم تحويلها إلى “أطراف ثالثة” لم تتمكّن شركة التدقيق من تحديدها، بسبب نقص المعلومات.

منذ بداية هذا الأسبوع، وبعد أن تحوّلت الفضيحة إلى قضيّة رأي عام، بدأ الضغط على مصرف لبنان لفتح تحقيق شامل بالقضيّة، أو لتكليف “كرول” باستكمال تدقيقها بعد تزويدها بجميع المعلومات المطلوبة. فالمصرف المركزي، هو بحكم القانون الجهة الناظمة للقطاع المالي بأسره، وهو الذي يملك -في دهاليزه- جميع المعطيات التي تكشف كيفيّة تكوّن العمولات والمستفيدين منها.

أمّا الأهم، فهو أنّ مواد قانون النقد والتسليف تعطي الحاكم بالإنابة صلاحيّة اتخاذ الإجراءات التنفيذيّة والاحتياطيّة المناسبة، كما تعطيه صلاحيّة اتخاذ صفة الادعاء قضائيًا بعد جمع المعطيات. والحاكم بالإنابة، يرأس كذلك مجلس إدارة هيئة الأسواق الماليّة، المكلّفة بإحالة هذه المخالفات إلى لجنة العقوبات.

في مقابل هول الفضيحة وحجمها، وحجم المسؤوليّات الملقاة على مصرف لبنان في هذا الملف، اكتفى المصرف حتّى هذه اللحظة بإبداء “استعداده للتعاون مع القضاء” (لفظياً) في هذه القضيّة. بهذا المعنى، حوّل الحاكم بالإنابة المصرف إلى شاهد على هامش الفضيحة، بانتظار تحريك الملف قضائيًا.

مع الإشارة إلى أنّ الحاكم بالإنابة يعلم جيدًا محدوديّة أفق التحقيقات التي أجرتها القاضية غادة عون، في هذا الملف. إذ تنتظر عون حاليًا صدور الحكم التأديبي بحقها، كما تعاني من عدم تعاون الغالبيّة الساحقة من المصارف اللبنانيّة والمؤسسات الماليّة مع التحقيقات التي تجريها.

بهذا الشكل، بات المصرف المركزي -الذي منح “أوبتيموم” العمولات الضخمة- مراقباً محايداً. أو بصورة أوضح: بات جزءًا من لعبة تقاذف المسؤوليّات، التي ألفها اللبنانيون في جميع الجرائم الماليّة والمصرفيّة، منذ حصول الانهيار. وتمامًا كما اعتاد بعض القضاة تبادل رمي الملفّات والتملّص من التحقيق فيها، يرمي مصرف لبنان كرة التحقيق في المخالفات الماليّة في ملعب القضاء، العاجز حتّى هذه اللحظة عن تحريك ملف الحاكم السابق رياض سلامة نفسه.

هكذا، وفي فضيحة ماليّة من هذا النوع، يستقيل مصرف لبنان من دوره الناظم والرقابي، ومن حرصه على أمواله العامّة، ليصبح شريكًا في التستّر على أعمال الحاكم السابق رياض سلامة.

التستّر على تورّط بنك عودة في فضيحة رياض سلامة

قبل أيّام من إثارة فضيحة “أوبتيموم”، أعلنت هيئة الرقابة على الأسواق الماليّة السويسريّة عن إجراءات عقابيّة، بحق فرع بنك عودة في سويسرا. وبموجب هذه الإجراءات، تم اقتطاع أرباح بقيمة 4.34 مليون دولار من ميزانيّة المصرف، كما فُرض على المصرف ضخ رساميل جديدة بقيمة 21.2 مليون دولار. وأشارت الهيئة إلى اتصال هذه العقوبات بانتهاك المصرف لالتزاماته في منع تبييض الأموال، عبر تحويلات جرت “من شخص مكشوف سياسيًا إلى مسؤول لبناني رفيع المستوى”.

من دون أن يذكر البيان ذلك، أجمعت المصادر المتابعة للقرار على أنّ المسألة تتصل بالتحقيقات التي تجريها الهيئة في ملف الحاكم السابق رياض سلامة، المتّهم باختلاس مئات ملايين الدولارات من أموال مصرف لبنان العموميّة، وبتبييضها عبر المصارف وأسواق المال الأوروبيّة.

وبهذا الشكل، كان مصرف لبنان معنيًا بهذا التطوّر من زاويتين: بوصفه صاحب الأموال المشتبه باختلاسها وتبييضها، وبوصفه الجهة الرقابيّة التي يفترض أن تحقّق بتورّط المصارف اللبنانيّة بعمليّات تبييض الأموال غير المشروعة. وبذلك، كان من المتوقّع أن يبادر المصرف إلى التحرّك، حرصًا على أمواله المشتبه باختلاسها أولًا، وحرصًا على سلامة النظام المالي اللبناني ثانيًا. ومن المعلوم أن وضعيّة الفرع السويسري لبنك عودة، تؤثّر بشكل مباشر على ملاءة وسيولة ووضعيّة المصرف الأم في لبنان، كما تؤثّر على علاقة المصارف اللبنانيّة بالنظام المالي العالمي.

لكن منذ صدور قرار هيئة الرقابة السويسريّة، امتنع المصرف المركزي عن التعليق! كما امتنع عن الإعلان عن أي إجراءات أو تحقيقات بخصوص أكبر مصرف لبناني، يُشتبه بتبييضه الأموال لمصلحة الحاكم السابق! ببساطة، لم يجد المصرف المركزي نفسه معنيًا بفضيحة من هذا النوع، لا من جهة الرقابة على أعمال بنك عودة، ولا من جهة ملاحقة أموال المصرف المركزي المُشتبه باختلاسها!

وعلى أي حال، من المعروف أنّ الحاكم بالإنابة امتنع حتّى هذه اللحظة عن اتخاذ صفة الادعاء على الحاكم السابق رياض سلامة، بإسم المصرف المركزي، في فضيحة شركة “فوري”. وهذا ما يحرم المصرف المركزي، صاحب الأموال المشتبه باختلاسها، من متابعة الدعاوى في المحاكم الأجنبيّة والمحليّة، ومن اتخاذ الإجراءات الاحتياطيّة التي تكفل استعادة هذه الأموال في المستقبل. وحتّى هذه اللحظة، لم يقدم المصرف المركزي على أي خطوة توحي باتجاهه لفتح تحقيقات داخليّة، لتسليم المزيد من المعلومات بخصوص العمليّات غير المشروعة، التي هدر من خلالها الحاكم السابق أموال المصرف.

من يبيع الدولارات لمصرف لبنان؟

بعد مغادرة الحاكم السابق رياض سلامة لمنصبه، أوقفت “القيادة الجديدة” في مصرف لبنان منصّة صيرفة عن العمل، مقابل وعد اللبنانيين بإطلاق منصّة جديدة شفافة لتداول العملات الأجنبيّة، بإشراف وإدارة وكالة “بلومبيرغ”. بعد ثمانية أشهر من إطلاق هذا الوعد، لم تبصر السوق هذه المنصّة الموعودة، بعدما تم تأجيل موعد إطلاقها لأكثر من مرة، بحجج وذرائع مختلفة.

غير أن مصرف لبنان، بغياب المنصّة، لم يتوقّف عن تداول العملات الأجنبيّة. بل تُظهر الأرقام أن المصرف جمع من السوق أكثر من مليار دولار، منذ بداية شهر آب الماضي. وعند جمع هذه الكميّة الضخمة من السيولة، لم يفصح مصرف لبنان عن كيفيّة اختيار الجهات التي تقوم بجمع الدولارات لمصلحة المصرف المركزي، ولا عن نسبة العمولات الممنوحة لها مقابل هذه المهمّة. ولم يقدّم المصرف أي إيضاحات بخصوص سعر الصرف المعتمد لسداد ثمن الدولارات، مقابل السعر المعتمد في السوق.

ببساطة، وبعد إلغاء المنصّة، تم جمع مليار دولار بأدوات لا تختلف عن تلك التي اعتمدها رياض سلامة في شيء. مع الإشارة إلى أنّ توفّر هذه الدولارات في السوق يطرح السؤال عن سبب تأجيل إطلاق المنصّة الشفافة، طالما أن موازين العرض والطلب كانت تسمح بتحقيق الاستقرار في سعر الصرف. وفي جميع الحالات، على اللبنانيين أن يذكروا أنّ عمليّات رياض سلامة الملتبسة في سوق القطع، والعمولات الناتجة عنها، كانت إحدى أسباب العقوبات الأميركيّة التي طالت شركة صيرفة لبنانيّة، مملوكة من أحد الاقتصاديين المعروفين.

بالإضافة إلى كل ذلك، ما زالت إدارة المصرف المركزي بعيدة عن الامتثال لأبسط معايير النزاهة والشفافيّة، في ما يتعلّق بأصول إعداد ميزانيّة المصرف، التي ما زالت تحفل بعمليّات التزوير التي قام بها الحاكم السابق خلال العام الماضي. كما ما زالت حاكميّة المصرف تلعب الدور نفسه، من جهة عرقلة تنفيذ خطّة التعافي المالي، وفق المعايير المتفق عليها مع صندوق النقد. وآخر فصول هذه العرقلة، كان تملّص الحاكميّة من مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف، الذي تم إعداده في مصرف لبنان، بناءً على أرقام المصرف نفسها.

بالتأكيد، ثمّة شيء عفن في مصرف لبنان.

 

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةأسعار الغذاء العالمية ترتفع بعد تراجعها لأدنى مستوى في 3 سنوات
المقالة القادمةرغم المعطيات السلبية: مؤشر مدراء المشتريات تحسّن في آذار