دأب وزراء الزراعة على الإستعارة من «مدرّبي الحياة» life coaches، أسلوبهم في معالجة عجز مرضاهم عن التخطيط للمستقبل. فالوزراء يعملون على هدى القول المأثور «البكاء على رأس الميت»، حيث لا يجوز استباق الأحداث، واختيار الوقت المناسب لكل فعل. وهذا «أصل البلى» في إدارة البلد عامة، ومسك ملف الزراعة خاصة.
بدأ قطاف موسم التفاح، ولم تُوجِد وزارة الزراعة أسواقاً لتصريف الإنتاج بعد، ولا حرّكت وزارة الأشغال العامة والنقل ساكناً لتخفيض «الخوّة» المفروضة على المرور بالأراضي السورية إلى العراق، وبقية الدول العربية. فعلِق المزارعون بين «فكي كماشة» التجار الذين يشترطون شراء المحصول بأسعار أقل من الكلفة، أو تلف الموسم نتيجة العجز عن تحمّل فواتير التبريد، التي وصلت إلى 4 دولارات للصندوق الواحد.
تحكّم التجار
من المتوقّع أن يرتفع حجم إنتاج التّفاح هذا العام إلى ما بين 8 و9 ملايين صندوق، أو ما يعادل 200 ألف طن، إذا اعتبرنا أن سعة الصندوق الواحد تبلغ في المتوسط 25 كيلوغراماً. وإن لم يُصر سريعاً إلى إيجاد الطريقة المناسبة لتصريف ثلثي هذه الكمية في الأسواق الخارجية، فإنّ مزارعي التفاح الذين ينتشرون في عكار بأقاصي الشمال، مروراً بجرود جبيل وكسروان، وأعالي الشوف وعرسال، وصولاً حتى الجنوب، سيصابون بخسائر فادحة. فـ»مع العجز عن تصدير الإنتاج عبر آلية واضحة ترعاها الدولة باتفاقيات ملزمة مع الدول المصدّر إليها، يصبح من السهل على التجار التحكّم بالمزارعين، وبالتالي بالأسعار»، يقول رئيس بلدية العاقورة، التي يعتمد أهلها بكثرة على هذه الشجرة في معيشتهم، العميد المتقاعد أسد الهاشم: «المشكلة أن المعالجات من قبل المعنيين، ولا سيما وزارة الزراعة لا تبدأ إلا مع بدء موسم القطاف. هذا التأخير المترافق مع عجز المزارعين عن تحمّل كلفة تبريد منتجاتهم في البرادات المخصصة، يعني «هرّ الموسم تحت إمّو»، وإفلاس عدد كبير منهم».
تصريف المنتجات بأقلّ الممكن
لغاية الساعة يصرف المزارعون إنتاجهم بطريقتين:
– الأولى، عبر البيع بالأسواق المحلية بأسعار زهيدة جداً، حيث لا يتجاوز سعر البيع بالجملة 5 آلاف ليرة للكيلو الواحد.
– الثانية، عبر البيع بشكل فردي لتجار التصدير بسعر حدّه الأقصى 3 دولارات، أي حوالى 100 ألف ليرة للصندوق.
«في الحالتين السعر ظالم جداً بالنسبة إلى المزارع، ولا يغطي حتى كلفة الإنتاج»، يؤكد الهاشم. و»المؤسف أن التجار يبيعون الكيلو الواحد بـ 25 ألف ليرة في الداخل. فيما تجار الخارج الذين يصدّرون القسم الأكبر إلى مصر يحسبون حساب تراجع الجنيه المصري أمام الدولار إلى حوالى 24 جنيهاً في السوق السوداء، وارتفاع أكلاف النقل بشكل كبير». فمن المحتمل أن لا يقدروا على بيع الصندوق بسعر 8 دولارات، كما كان معتمداً في السنوات السابقة. فالـ8 دولارات تعادل في مصر اليوم 192 جنيهاً، بعدما كانت في السنوات الماضية 96 جنيهاً. وبحسب هاشم «إن تخفيض السعر محلياً من قبل التجار يسمح بتصريف نحو 3 ملايين صندوق، فيما رفع الأسعار للتصدير يساعد على تصريف الكميات المتبقية والمقدّرة هذه السنة بين 4 و5 ملايين صندوق. وبالتالي توازن السعر يجنّب المزارعين كارثة محتّمة».
غياب العمل الرسمي الفعّال
كلّ الجهود الّتي بذلها عضو تكتل «الجمهورية القوية» النائب شوقي الدكاش منذ أشهر طويلة لعدم حشر المزارعين، وهو منهم، في عنق الزجاجة مع بدء موسم التصدير، لم تؤتِ ثمارها. فمع هذه الدولة «لا تندهي ما في حدا، لا تندهي»، على حدّ وصفه. «الملحقون الإقتصاديون لا يبذلون الجهود المطلوبة، وهم يتحجّجون بعدم نيل مستحقاتهم من الدولة. ووزير الزراعة غير قادر على تغيير المعادلة، أما اللجنة الرباعية التي شكّلت لمتابعة الملفات العالقة فلم تصل إلى أي نتيجة إيجابية». وعليه «فإن كل الأبواب لتصريف الإنتاج وتعويض الأكلاف الباهظة ما زالت مقفلة؛ والمزارعون متروكون لتقبيع «أشواك» فشل الدولة بأيديهم».
وبحسب الدكاش هناك 3 أسباب رئيسية حالت دون تصريف الإنتاج بسرعة وفعالية إلى العديد من أسواق التصريف الأساسية، وهي:
– فرض الدولة السورية رسم ترانزيت بقيمة 1400 دولار على الشاحنات اللبنانية المحمّلة التي تمرّ عبرها إلى الدول العربية. وفشل وزير الأشغال العامة والنقل بإقناع الجانب السوري برفع هذا الرسم عنها كما وعد قبل أشهر طويلة.
– وصول تكلفة الشحن برّاً إلى العراق عبر سوريا إلى 5000 دولار أميركي. إذ إنه بالإضافة إلى رسم الترانزيت الذي يحتسب بضرب وزن الشاحنة المحمّلة بالمسافة المقطوعة، فإن العراق يمنع دخول الشاحنات اللبنانية إلى أراضيه ويشترط نقل البضاعة إلى شاحنة أخرى على الحدود السورية العراقية. الأمر الذي يضيف أكلافاً كبيرة جداً، ويضعف قدرة المنتجات اللبنانية على المنافسة في الأسواق العراقية.
– عدم القدرة على تصدير التفاح إلى الأردن قبل تشرين الأول، بحسب الروزنامة الزراعية المعتمدة بين البلدين. هذه المشكلة التي كانت تحل قبل سنوات بوضع البضائع في البرّادات، لم تعد ممكنة اليوم نظراً للعجز عن تحمّل كلفة التبريد. وبالتالي فإن المطلوب تعديل هذه الروزنامة، والسماح بدخول البضائع ابتداء من نهاية آب.
أمام كل هذا الإهمال لم يعد هناك من منفذ لتصريف البضائع إلا عبر تصديرها إلى مصر بشكل فردي والرضوخ للضغوطات الناتجة عن تحكم التجار.
الحلول ممكنة
في الوقت الذي لا تكتفي فيه الدول المنتجة للتفاح المنافس، كتركيا مثلاً، بفتح الأسواق أمام منتجاتها وبناء العلاقات التجارية، إنما أيضاً دعم الأكلاف التصديرية، نرى تعطيل كل المبادرات في لبنان. برنامج «اكسبوت بلاس» الذي كان يعطي 100 ألف ليرة عن كل طن مصدر، في «موت سريري»، فهناك مبالغ لم تدفع للمزارعين عن السنوات الماضية، واحتساب الـ100 ألف ليرة على سعر الصرف الحالي لا تشكل أكثر من 3 دولارات بعدما كانت قيمتها 70 دولاراً في الماضي. أما على صعيد تعزيز العلاقات وفتح الأسواق، فزيارات المسؤولين إلى الخارج «تيتي تيتي مثل ما رحتي متل ما جيتي»، وهذا ما برز بشكل فاضح بعدم العمل بشكل جدي على رفع الرسوم الجمركية المفروضة على البضائع اللبنانية بنسبة 40 في المئة من قبل الهند. ذلك مع العلم أن الهند سوق واعدة وكبيرة، لتصريف المنتجات الزراعية وغير الزراعية. وبحسب الدكاش «كان يكفي الحكومة أن تدعم أكلاف المازوت للبرّادات من أجل حماية المزارعين وتمكينهم من الاحتفاظ بـ100 ألف طن من التفاح المنتج، بدلاً من اضطرارهم إلى عرض كل الكمية المقدرة بـ200 ألف طن في وقت واحد وحرق الأسعار».
مشكلتا التبريد وأسواق التصريف اللتان انفجرتا مع بدء موسم التفاح، ستشظّيان بقية المنتجات من بطاطا وموز وحمضيات في الفترة القادمة. فالمنتجات الزراعية تعاني المشاكل نفسها حتى لو اختلفت كميتها المنتجة أو درجة الاعتماد عليها في معيشة المزارعين. وبرأي الدكاش «إن هذه المشاكل يمكن حلّها لو كان هناك دولة تسأل وتهتمّ، ويكفي تأمين التبريد من خلال دعم المازوت أو حتى دعم تركيب أنظمة الطاقة الشمسية، والعمل على فتح أسواق جديدة في أفريقيا، وايجاد خطوط النقل الصحيحة وغير المكلفة… حتى تنتفي المشاكل أو أقله تصبح محمولة من قبل المزارعين. أما اليوم وفي ظل كل هذه الظروف فإن المستقبل لا ينبئ إلا بالأسوأ.