جاء انعقاد مؤتمر «العُلا لاقتصادات الأسواق الناشئة» في توقيت بالغ الأهمية، حيث يشهد العالم والمنطقة تحولات اقتصادية وتكنولوجية وجيوسياسية كبيرة؛ من تعريفات جمركية سيكون لها انعكاساتها على التجارة الدولية، إلى عودة المخاوف من ارتفاع التضخم، وما سيرافق ذلك من تأخر في التخفيضات المتوقعة لأسعار الفائدة، فارتفاع الدولار وما له من تأثير على الأسواق الناشئة، فتنامي الصراعات الجيوسياسية وغيرها… كل هذه العوامل وغيرها لها تداعياتها بالتأكيد على الاقتصادات الناشئة.
فمؤتمر العُلا الذي نظمه كل من صندوق النقد الدولي ووزارة المالية السعودية، «يمثل بداية مهمة لمنصة تهدف إلى رفع صوت الاقتصادات الناشئة في الساحة العالمية، حيث يتم من خلالها التعبير عن آرائها واحتياجاتها»، وفق توصيف وزير المالية محمد الجدعان في ختام المؤتمر الذي دام يومين.
وقالت مصادر لـ«الشرق الأوسط» إن المؤتمر سيكون له بلا شك تأثير كبير في رسم السياسات الاقتصادية في هذه الاقتصادات مستقبلاً.
وهو ما أمكن استشفافه من خلال المناقشات العميقة بين وزراء المالية ومحافظي المصارف المركزية وصناّع السياسات وقادة القطاعين العام والخاص في الاقتصادات الناشئة، والمؤسسات الدولية، إن على صعيد النمو الاقتصادي، أو الاستقرار المالي، أو التنمية المستدامة، والتضخم، والديون، وغيرها – والاستراتيجيات المقترحة التي يمكن أن تدعم النمو في هذه الأسواق.
ومن نافل القول إن استضافة السعودية – العضو في مجموعة العشرين – هذا الحدث تعكس مكانتها ودورها القيادي في المنطقة والعالم، كما تعكس التزامها بدعم الاقتصادات الناشئة وتعزيز التعاون بين دولها.
لا شك أن الاقتصادات الناشئة تلعب دوراً بارزاً في الاقتصاد العالمي. فهي تقود حالياً 65 في المائة من النمو العالمي، وتواصل في تحقيق معدلات نمو جيدة. إذ يتوقع صندوق النقد الدولي أن تنمو بواقع 4.3 في المائة في 2025 و4.2 في المائة في 2026 مقابل ما نسبته 3.3 في المائة للنمو الاقتصادي العالمي خلال العامين المشار إليهما.
وهو ما يعني ارتفاعاً في معدلات التوظيف وزيادة في الإنفاق الاستهلاكي؛ ما يجعلها محط أنظار المستثمرين للجوء إليها بصفتها إحدى أهم الفرص الاستثمارية.
من هنا دعوة وزير المالية السعودي الاقتصادات الناشئة إلى أن تعزز ثقتها بنفسها وأن تعترف بدورها الحيوي في التأثير على الاقتصاد العالمي، قائلاً إنه يتعين على هذه الدول أن تُسمع في المحافل العالمية.
وأضاف أن «اجتماعات مثل العُلا تضمن أن تصل أصواتنا، نحن لا نتحدى الاقتصادات المتقدمة، وإنما نقول لها فقط إن العالم سيكون أفضل بكثير إذا تعاونت مع الاقتصادات الناشئة».
وأكد أن التعاون بين الاقتصادات المتقدمة والناشئة سيكون له أثر إيجابي على معالجة القضايا العالمية بشكل أكثر فاعلية، معرباً عن الأمل في أن يساهم «مؤتمر العُلا» في تعزيز هذا التفاعل بين مختلف الأطراف.
من جهتها، وجّهت المديرة العام لصندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا، 3 رسائل للدول الناشئة لتعزيز نموها الاقتصادي، وهي التنويع الاقتصادي، وتبنّي سياسات مرنة، والرقمنة. وأكدت تفاؤلها الكبير بقدرة هذه الأسواق على مواجهة التحديات الاقتصادية.
وأشارت إلى أن هذه الدول باتت تمتلك رؤية واضحة حول العقبات التي تواجهها وأساليب التعامل معها. وأكدت على ضرورة تبادل الخبرات بين الدول، لتتجنّب الأخطاء القابلة للتفادي، والاستفادة من الدروس الإيجابية، فحينها «سنكون قد أدينا مهمّتنا بنجاح».
بيان مشترك
وفي بيان مشترك صادر في ختام المؤتمر، شكر كل من الجدعان وغورغييفا «صانعي السياسات في الأسواق الناشئة، والأكاديميين، وممثلي المؤسسات المالية الإقليمية والدولية، على انضمامهم إلينا ومساهمتهم في جعل مؤتمر العُلا الاقتصادي الأول من نوعه لاقتصادات الأسواق الناشئة، منتدى ناجحاً لبناء مزيد من التعاون ومناقشة التحديات المحددة التي تواجه الأسواق الناشئة».
وقالا في بيانهما: «لقد ناقشنا على مدار اليومين الماضيين كيف يمكن للاقتصادات الناشئة أن تتغلب على المخاطر، والأهم من ذلك كيف يمكنها اغتنام الفرص المتاحة أمامها.
ومن المواضيع المشتركة التي برزت، أهمية وحدة الهدف والحاجة إلى مواصلة العمل معاً للحفاظ على قدرة اقتصادات الأسواق الناشئة على الصمود في وجه الصدمات والحفاظ على النمو». وشددا على أن هناك ثلاث نتائج يجب تسليط الضوء عليها، هي:
أولاً، أنه في وقت التحولات الشاملة التي تعيد تشكيل الاقتصاد العالمي، وفي عالم أكثر غموضاً وعرضة للصدمات، يجب أن يظل بناء المرونة، من خلال سياسات اقتصادية كلية ومالية سليمة، أولوية.
ثانياً، تغتنم الأسواق الناشئة هذه التحولات لجعل اقتصاداتها أقوى. ومع انتشار الرقمنة والسياسات الطموحة على نطاق واسع، فإن آفاق تسخير فوائد الذكاء الاصطناعي واعدة.
ومن شأن الاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعي أن تعزز إنتاجية اقتصادات الأسواق الناشئة وقدرتها على الصمود، ولكن ذلك سيتطلب إصلاحات لتعزيز الاستثمارات في البنية التحتية الرقمية ورأس المال البشري. كما سيكون من المهم أيضاً تعميق التكامل التجاري والمالي الإقليمي.
ثالثاً، في حين أن هذه التحولات توفر فرصاً كبيرة، يجب أن نعمل معاً للمساعدة في تجنب الخطر الحقيقي المتمثل في تخلف بعض البلدان عن الركب.
وبالطبع سيكون خط الدفاع الأول هي السياسات والإصلاحات المحلية القوية للمساعدة في اغتنام هذه الفرص. ولكن يمكن للمجتمع الدولي أيضاً أن يدعم البلدان ويقلل من خطر التباعد المتزايد.
وختم الجدعان وغورغييفا بيانهما بالتشديد على أهمية استضافة أول منتدى عالمي يركز فقط على الآفاق الاقتصادية لاقتصادات الأسواق الناشئة، متطلعَين إلى مواصلة المناقشات العام المقبل وفي مؤتمر العُلا الثاني.
«جاكسون هول»
انطلاقاً من التصريحات المعلنة، فإن مؤتمر العُلا لاقتصادات الأسواق الناشئة سيكون على غرار «جاكسون هول» الأسواق الناشئة من الآن فصاعداً.
فكما أن مؤتمر «جاكسون هول» الذي يُعقد سنوياً في مدينة جاكسون هول بولاية وايومنغ الأميركية ويستقطب وزراء المالية ومحافظي المصارف المركزية وصناع السياسات من مختلف دول العالم، لبحث القضايا الاقتصادية العالمية الكبرى، خصوصاً السياسات النقدية والمصرفية والمالية العالمية، ومناقشة الأفكار والسياسات التي تؤثر في الاقتصاد العالمي، سيكون كذلك حال «مؤتمر العُلا» المختص بملفات اقتصادات الدول الناشئة.
وقال وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، إن «اجتماعات مثل (مؤتمر العُلا) تضمن أن تصل أصواتنا. نحن لا نتحدى الاقتصادات المتقدمة، وإنما نقول لهم فقط إن العالم سيكون أفضل بكثير إذا عملوا بتعاون مع الاقتصادات الناشئة. بمعنى آخر، كلا المؤتمرين يسعى إلى مناقشة القضايا الاقتصادية المهمة واقتراح حلول للتحديات، وكلاهما يؤثر في صياغة السياسات الاقتصادية على المستويين الوطني والدولي. وكلاهما من الفعاليات الاقتصادية المهمة على مستوى العالم التي تسهم في فهم التحديات الاقتصادية العالمية واجتراح حلول لها، وهما مكمِّلان بعضهما لبعض في الجهود المبذولة، لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والتنمية المستدامة على مستوى العالم».