من أكثر ما أنتجته الأزمة في لبنان هو معضلة القطاع العام التي تفاقمت وبرزت بشكل واضح مع تفاقم الأزمة التي ربما أشعلت النار التي كانت خابتة تحت الرماد وحركت المياه الراكدة، لأن ازمة القطاع العام لم تكن وليدة اليوم فهي موجودة منذ زمن بعيد وهذه الأزمة تكمن في ترهل هذا القطاع والتخمة في عدد الموظفين او ربما التوظيف السياسي، وهذا ما انعكس على أداء وإنتاجية الموظفين الذي بدوره انعكس على الموظفين المنتجين الذين يستحقون أن ينالوا رواتب لائقة وأن يعيشوا حياة كريمة، بعدما فقدوا حوالى ٩٠% من قيمة رواتبهم من جراء تدهور الليرة اللبنانية مما أدى إلى تراجع قدرتنم الشرائية .
وبالرغم من الزيادات التي أعطيت لموظفي القطاع العام لكن لم تتعد قيمة رواتبهم ال ٤٠% من نسبة ما كانت عليه قبل الأزمة ، بحيث أصبح مجموع ما يتقاضاه موظفو الإدارة العامة 9 رواتب شهرياً وبدل حضور يومي للموظفين بين 8 و 16 صفيحة بنزين و مكافأة مثابرة في حال أمنوا حضورا شهريا كاملا ووفق معايير انتاجية محددة.
أما العسكريون في الخدمة الفعلية في الأسلاك كافة فأصبح مجموع ما يتقاضونه 9 رواتب شهرياً زائد بدل نقل 9 مليون ليرة لبنانية بدل 5 ملايين ليرة لبنانية.
وبالنسبة للمتقاعدين من عسكريين ومدنيين فقد أصبح مجموع ما يتقاضونه 9 رواتب شهرياً على الا تقل الزيادة عن 8 ملايين ليرة لبنانية زائد بدل سائق للضباط المتقاعدين الذين يستفيدون من سائق وقدره 5 ملايين ليرة لبنانية.
وفيما كشف رئيس الاتحاد العمالي العام الدكتور بشارة الأسمر في حديث سابق للديار أن هناك اتجاها لإعطاء موظفي القطاع العام في أوائل شهر تشرين اول المقبل راتبين إضافيين، على أن يتبعها بعد شهرين أو ثلاثة أشهر راتب او اثنين بحيث يحصل الموظفون في أوائل العام ٢٠٢٥ على ١٢ أو ١٣ راتبا من أساس الراتب الذي كانوا يتقاضونه في العام ٢٠١٩، كشفت مصادر وزارية للديار أن هذا الموضوع قيد البحث حالياً لكن ليس هناك قرار نهائي حتى الآن.
في هذا الإطار اعتبر الباحث المالي والاقتصادي الدكتور محمود جباعي في حديث للديار أن من أهم المعضلات والتحديات التي تواجه الحكومة الحالية او اي حكومة مقبلة هو تحدي كيفية حل مشكلة القطاع العام التي يجب ان يكون لها رؤية شفافة ودقيقة وعلمية ومنطقية من أجل الخروج بأفضل النتائج في المرحلة المقبلة .
ولفت جباعي إلى ان القطاع العام هو من اكثر المتضررين من الأزمة التي يرزح تحتها لبنان منذ سنوات سيما الموظفين المنتجين والفاعلين والعاملين بجهد الذين دفعوا ثمناً كبيراً خلال الأزمة سيما القوى الأمنية والعسكرية “وهم أكثر من يعاني في هذا القطاع”، مؤكداً أن كل القطاع العام يعاني بفعل الأزمة.
ورأى جباعي أن موضوع القطاع العام بحاجة إلى خطة ودراسة عميقة ومعمّقة تحدد ماهية المرحلة المقبلة لناحية التعاطي مع هذا القطاع سيما أن كل الإصلاحات الحقيقية في البلد تبدأ من القطاع العام ، لأنه قبل الأزمة كان يساهم بنسبة كبيرة من نفقات الدولة التي كانت مرتفعة جداً بالنسبة للناتج المحلي بحيث وصلت إلى حدود ٣٣ او ٣٤ % من مجمل النفقات، “وهذا الرقم يعتبر مرتفعا جداَ في بلد مثل لبنان إذ ان الرقم يجب أن يكون بين ١٢ و ١٥% كحد أقصى من مجمل النفقات على أن تكون الإيرادات كافية لدفع هذه النفقات وهذا الامر يُعتبر استراتيجيا وجديا”.
ووفقاً لجباعي الورم الوظيفي هو من أكبر وأهم وأصعب المشاكل التي يواجهها القطاع العام، والشلل في الإنتاجية الحاصل بفعل هذا الورم الوظيفي والمحسوبيات السياسية بالتوظيف والتدخل السياسي بالإدارة، معتبراً ان الإصلاح يبدأ بفصل التدخلات السياسية عن الأعمال الإدارية والحد من الورم الوظيفي قدر المستطاع ضمن الأمور الواقعية في المرحلة المقبلة.
وإذ اعتبر جباعي ان عدد العاملين في القطاع العام هو عدد كبير جداً بالنسبة لحجم الإنتاجية لهذا القطاع، رأى أن الحل واضح جداً وهو إعادة هيكلة القطاع العام والقضاء او التخفيف من حجم الورم الوظيفي وتنشيط العمل في القطاع العام عبر إدخال المكننة الى الإدارات العامة في الدولة من أجل زيادة الإنتاجية، و كذلك إقامة دورات تدريبية لكل الموظفين على هذه الطريقة الجديدة بالتعاطي مع المكننة من اجل إدخال عنصر تكنولوجي مهم في العمل يساعد العنصر البشري في سبيل تحقيق الإنتاجية .
ويؤكد جباعي على أنه عند التخفيف من حجم القطاع العام ورفع القدرات الإنتاجية للموظفين لن يبقى هذا القطاع عبئاً على الدولة بل سيقوم بتحصيل نفقاته المطلوبة من خلال إيرادات عالية قد تحصلها الدولة وتستفيد منها في عدة مجالات، لافتاً إلى أن القطاع العام ممكن أن يُنتِج سيما في الإدارات الرسمية والعامة التي لديها قدرة على العمل والإنتاجية مثل النافعة والعقارية ،” سيما إذا قمنا بإعادة هيكلة لهذه القطاعات”، ويؤكد جباعي على انه عندما تقوم الدولة بكل هذه الأمور فتلقائياً حجم القطاع العام سيصغر ونسبة نفقاته من الناتج المحلي ستنخفض لأنه عندما يحقق القطاع العام إيرادات عالية فالناتج المحلي سيرتفع وهذا الأمر مع تخفيض عدد الموظفين سيؤدي إلى تحقيق نوع من التوازن بنسبة مساهمة نفقات الدولة من مجمل النفقات في البلد كي تصل إلى ما بين ١٣ و ١٥ % منها .
ويرى جباعي عند تحقيق كل هذه الأمور يصبح بالامكان تحسين رواتب معظم العاملين في القطاع العام بشكل يتمشى مع حجم القدرة الشرائية وحجم التضخم مع اعتماد السلم المتحرك للأجور وفق دراسة القدرة الشرائية الحقيقية في السوق لمعرفة حجم الراتب الشهري لموظفي هذا القطاع كي يعيشوا حياة كريمة وتأمين نفقاتهم اليومية والأساسية، مؤكداً ان هذا الأمر يساعد على الحد من الفساد والهدر فضلاً عن زيادة الإنتاجية مع ضرورة تفعيل دور الرقابة بشكل شفاف ومنطقي وبالتالي حل أزمة القطاع العام.
ويوضح جباعي ان حل ازمة القطاع العام هو مدخل لحل الأزمة الأساسية للدولة اللبنانية لأن مجمل نفقاتها تذهب للقطاع العام وهو عندما ينتج وتصبح إيراداته مرتفعة وإنتاجيته مهمة يتمكن من ان يؤمن نفقاته مع فائض في الموازنة يساهم في وضع البلد على السكة الصحيحة من اجل الإنفاق على امور أخرى و العمل على امور مهمة تساعد في تجهيز البنى التحتية والنفقات الاستثمارية وغيرها .
ودعا جباعي جميع المسؤولين عن القطاع العام إلى ان تكون أي مساعدة تقدَم للموظفين منصفة وبالتساوي والعمل سريعاً على تحسين رواتب القوى الأمنية والعسكرية والمتقاعدين الذين تعد رواتبهم متدنية جداً،” وإن كان كل القطاع العام يعاني لكن هؤلاء أزمتهم أكبر من غيرهم لأنه لا يوجد إنصاف بالتعاطي بملف القطاع العام”، مشدداً على ضرورة توزيع أي مساعدة أو زيادة بالإنصاف والتساوي على الجميع من أجل الخروج من الأزمة، معتبراً كل المساعدات التي تعطى للموظفين نوعاً من الحلحلة المؤقتة من أجل تمكينهم من الاستمرارية .
وختم جباعي بالقول كل القوى الأمنية والعسكرية والمتقاعدين والمتعاقدين يعانون بشكل كبير جداً ويجب النظر إلى وضعهم بشكل سريع قبل الوصول إلى الحل الشامل، وبعد ذلك يمكننا الذهاب إلى حل نهائي لهذا الملف الذي يخفف أعباء كبيرة عن الدولة اللبنانية ويساهم في تحريك الناتج المحلي والإنتاجية بالشكل المطلوب، من اجل تحقيق النمو الاقتصادي المطلوب بعد تفاعل القطاع العام مع القطاع الخاص بشكل مدروس للوصول إلى شرْكة بين القطاعين بشكل مدروس أيضاً.