بمشهد بانوراميّ مذهل، تَظهَر مدينة بيروت تحت التلّة التي شُيِّدَ عليها مبنى من عدّة طبقات. ومع حديقة تشكِّل فسحة نجاة وسط الازدحام والضغط النفسي المرافق للحرب المستمرّة، أصبَحَ المنزل المعروض للإيجار على تلك التلّة، منزلَ الأحلام بالنسبة إليَّ أنا كاتب هذه السطور والهارب إلى مكان لا يصحّ تسميته منزلاً، في إحدى قرى شرق صيدا. لكن ما بدا في الفيديو الذي أرسله صاحب المنزل، لا يختصر كلّ المشهد.
بالتوازي، فيديوهات وصُوَر كثيرة تتناقض تماماً مع ما توحيه الإعلانات المنتشرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي ومجموعات “واتساب”. أو لنَقُل أنّها خادعة، فالإعلانات تُصاغ بعبارات جاذبة لتوقِعَ الزبائن في حفرة السوق. وبراءة الذِّمة التي يعطيها أغلب أصحاب البيوت لأنفسهم هي أن “السوق عبارة عن عرضٍ وطَلَب، وكلّ شخصٍ يقرِّر ما يناسبه من عروضات”، وفق ما قاله لـ”المدن” أكثر من شخصٍ يعرض منازل للإيجار، ومن بينهم أصحاب مكاتب عقارية. فهل وَقَفَ الاستغلال عند هذا الحدّ؟.
جرذان وسموم وأحجار باطون
لم تعد مسألة ارتفاع إيجارات المنازل بأكثر من 3 أضعاف وحدَها أزمة الهاربين من آلة القتل الإسرائيلية. بل وصلَ الاستغلال إلى حدّ عَرض منازل لا سبيل للعيش فيها بطريقة محترمة، فكيف إذا ما أضيفَ إليها سعرٌ خياليّ؟.
بناءً على فيديو يُظهِرُ 3 غرف نومٍ و3 حمّامات ومطبخ وغرفة طعام وصالون وحديقة واسعة تشرف على العاصمة بيروت، وسعر يقلّ عن 700 دولار، اتصلتُ بالرقم المرافق للإعلان واتفقت مع صاحب الشقة على ملاقاته صباحاً والتوجّه لمعاينة الشقّة حضورياً. ذهبتُ باكراً لمعاينةٍ اعتبرتُها شكلية، إذ حسمت أمري بالتعرُّف على صاحب الشقة والحصول منه على المفتاح. وعلى أبعد تقدير، سأنتقل إليها في اليوم التالي.
بعد وصولنا إلى مبنى من عدّة طبقات، توجَّهنا أنا وصاحب الشقّة إلى مكانٍ سفلي. استقبلَتنا عند فتح باب الشقّة، رائحة كريهة يستحيل احتمالها. قلت في نفسي لعلّها رائحة رطوبة بما أن المنزل سفليّ وشاغر منذ نحو شهرين حسب ما قال صاحبه. لكنه طمأنني إلى أن ما أشمّه ليس رطوبة، بل “رائحة 3 جرذان وجدت ميتة في المنزل، ولا نعرف من أين دخلت. وهذا رائحتها مع رائحة السمّ الذي وضعناه لقتلها”، وفق ما قاله.
البحث عن نوافذ تُدخِل الهواء إلى المنزل وتقضي على رائحة الجرذان وسمّها، عبارة عن أملٍ يتناقص كلّما مَرَرنا بغرفة من غرف المنزل. لا نوافذ بتاتاً في الحمامات، ولا المطبخ وإحدى غرف النوم، فيما الغرفتان الباقيتان، فيهما نافذتان مرتفعتان تفصلهما عن الصخور الملاصقة للمبنى أقل من متر، فتحجب الشمس والهواء.
المنفذ الوحيد للشمس والهواء هو الواجهة الزجاجية في الصالون. هي واجهة تتيح للهواء الآتي من البحر بالدخول إلى المنزل، لكنها غير كافية لوصول الهواء والشمس إلى كل الاتجاهات.
وفي الصالون، سُلَّم حديدي صغير، يصعد نحو الشبّاك، ومنه نعبر إلى سلّم في الطرف الآخر. هكذا فقط يمكن الوصول إلى الحديقة التي عليَّ “استئجار شركة لرشّ المبيدات الحشرية، كل فترة، لضمان عدم دخول الحشرات والزواحف والجرذان منها”، كما أنبأني صاحب المنزل الذي أكَّدَ أنه يعرف “شركة محترمة يديرها صديقي”. وبالتأكيد، كلفة خدمات المياه والكهرباء والانترنت وخدمات البناية، ليست مشمولة بالإيجار.
في تجربة أخرى للبحث عن منزل ملائم، قادَ يوسف عباس الهارب من عيترون إلى غرفة تمرُّ منها الجرذان. ولم يخبره أحدٌ بهذه “الرفاهية”. اضطرّ للبقاء في الغرفة “إلى حين إيجاد البديل المناسب” على حدّ تعبيره. والعروض التي تتناسب مع ميزانيّته المادية لم تعطهِ أكثر من غرفة أو غرفتين في مناطق عكّارية نائية، وغالباً بين البساتين أو في الأحراج. فكان الخيار الأنسب، بحسب ما يقوله لـ”المدن”، هو البقاء “في محيط بيروت والانتقال لاحقاً إلى محيط مدينة صيدا”. بين الاتجاهين “كانت الخيارات تتحسَّن. إلى أن وصلنا إلى منزل سقفه يقطر ماءً في الشتاء، ومكان الاستحمام مفتوحُ على المطبخ ويرفض صاحبه تركيب باب له أو تركيب سخّان للمياه… لكنه أفضل من الجرذان”.
على المقلب الآخر، يحصل محمد الآتي من إحدى قرى قضاء صور، على عرضٍ لشقّة من غرفتين ومطبخ وحمّام. بحسب الإعلان، هي شقةّ مناسبة قياساً للإيجارات المتداولة، خصوصاً أن الإيجار البالغ 400 دولار يتضمَّن خدمات المياه والكهرباء. لكن لدى إرسال صاحب المكتب العقاري للفيديو الخاص بالشقة “اتّضحَ أنها عبارة عن غرفتين من الباطون، والمطبخ والحمّام عبارة عن حجارة اسمنتية ربّما استُحدِثا على عجل”، كما يقول لـ”المدن”. أمّا الوجهة، فهي “نحو قرية عكّارية بعيدة”. علماً أن “المنزل يقع داخل بستان. ونصل إليه عبر طريق ترابي، كما أكَّدَ الوسيط العقاري. وبالتأكيد، لا يوجد إنترنت، وكهرباء الدولة هي المصدر الوحيد للطاقة، إلاّ إذا تمّ شراء أو استئجار مولِّد خاص صغير يعمل على البنزين”.
تجارة أم استغلال؟
ما يجري اليوم في موضوع الإيجارات، لا يندرج ضمن سياق التجارة النزيهة. ولا يصحّ الاستناد إلى ذريعة اعتماد السوق الحرّة على مبدأ العرض والطلب، لتبرير انفلات أسعار الإيجارات واستغلال ظروف الحرب والتهجير. فالسوق الحرّة ومبدأ العرض والطلب “محكومة بقوانين وبعمل مؤسسات الدولة”، وفق ما يقوله رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برّو، الذي يرى في حديث لـ”المدن” أن “غياب الدولة أو ضعفها يجعل العرض والطلب وحده المتحكِّم بالسوق، وهنا ندخل بالتوحّش التجاري واستغلال الظرف السائد في البلد”.
ولأن المستأجِر هو مستهلك لخدمة معيّنة يدفع ثمنها، بات من الواجب على الدولة رعاية حقوقه. لكن عوض ذلك “لم تصدر المراسيم التطبيقية لقانون حماية المستهلك، والهدف هو ترك السوق الحرّة متوحّشة، بما يؤمِّن مصالح كبار التجّار، وهذا ينطبق على الإيجارات“.
كما يعتقد برّو أن الأزمة الاقتصادية التي انفجرت في العام 2019 وأدّت إلى تآكل القدرة الشرائية للرواتب والأجور، ساعدت في استغلال أصحاب المنازل للحرب والنزوح. “فالإيجارات تراجعت بنحو 70 بالمئة بفعل الأزمة الاقتصادية، الأمر الذي شجَّعَ الناس على استغلال النزوح لتعويض تراجع قيمة الإيجارات”.
لا يبدو أن معضلة النزوح والإيجارات الخيالية واستغلال الحرب ستنتهي قريباً، خصوصاً وأن استهداف العدوّ للكثير من الأبنية السكنية في مناطق تُعتَبَر آمنة، يدفع النازحين إلى البحث مجدداً عن منازل في مناطق أخرى، وهذه الطريقة، تفتح شهية المستَغِلّين أكثر، إذ يعرفون أن المنزل الذي لا يؤجَّر اليوم سيؤجَّر غداً بسعر أعلى.