ثمان جلسات للجان المشتركة عُقدت حتّى الآن، لمناقشة مشروع قانون الكابيتال كونترول، من دون أن يتم الاتفاق على صيغة نهائيّة يمكن إحالتها للهيئة العامّة. لا بل مع مرور كل جلسة، تزداد التعقيدات المرتبطة بهذا الملف، والتي تحرّكها المصالح المتحكمة بمواقف النوّاب وتصريحاتهم.
في آخر الجلسات يوم أمس الأربعاء، حُصرت النقاط الخلافيّة بنقطتين تتعلقان بمفهوم الأموال الجديدة، والدعاوى المرفوعة ضد المصارف في المحاكم اللبنانيّة والأجنبيّة، فيما تجاوز النوّاب مسألة اللجنة التي ستنظّم تطبيق القانون، عبر الإبقاء على الصيغة المقترحة من الحكومة. ومع ذلك، لا يوجد ما يؤكّد أن الطريق ستكون سالكة باتجاه إحالة مشروع القانون إلى الهيئة العامّة، حتّى بعد الانتهاء من مناقشته بندًا بندًا في اللجان المشتركة، بغياب الاتفاق حول ضرورة تمرير القانون قبل مناقشة قوانين إعادة هيكلة المصارف وإعادة الانتظام إلى القطاع المالي.
نقاط الاشتباك المتبقية
الخلافات المتبقية حول تفاصيل القانون، تنحصر اليوم بمسألتي مصير الدعاوى المرفوعة حاليًّا ضد المصارف، وكيفيّة التعامل مع الأموال الجديدة الواردة إلى المصارف بعد تشرين الأوّل 2019. فالمادّة الثانية عشر من مشروع القانون، حسب الصيغة المقترحة من قبل الحكومة، نصّت على سريان أحكامه حيّز التنفيذ فور صدوره، بما يشمل الدعاوى “المقامة أو التي ستقدّم بوجه المصارف والمؤسسات الماليّة أو المنبثقة عنها، مهما كانت طبيعة هذه الدعاوى أو مكان تقديمها أو نوعها أو درجتها”، كما تشمل أي دعوى “لم يكن قد صدر فيها قرار مبرم بتاريخ نفاذه”. وبهذا المعنى، سيتم تطبيق القانون حتّى على الدعاوى التي صدرت فيها أحكام قابلة للطعن في محاكم الاستئناف أو التمييز، بما يعطيه مفعولًا رجعيًا بالنسبة لهذه الدعاوى.
إشكاليّة هذه المادّة بالنسبة إلى عدد من النوّاب تبدأ من كونها تمثّل “صك براءة” يبطل الدعاوى القائمة أساسًا في وجه المصارف، ويحرم المودع من حقّه القانوني في هذه الدعاوى الناشئة قبل إقرار القانون وتطبيق أحكامه. كما يعتبر جزء آخر من النوّاب أن إقرار هذا القانون لن يمنع المحاكم الأجنبيّة من قبول دعاوى المودعين في الخارج لاستعادة ودائعهم، خصوصًا إذا وجدت هذه المحاكم أن أحكام القانون لا تنسجم مع أحكام الدستور اللبناني.
النقطة الإشكاليّة الثانية المتبقية ترتبط بمفهوم الدولارات أو الأموال الجديدة، والتي تمثّل بحسب مقترح الحكومة “تدفقات العملات الأجنبيّة كافة المحولة من الخارج إلى حسابات مصرفيّة في لبنان أو الإيداعات النقديّة بالعملة الأجنبيّة، بما فيها تلك التي تمّت بعد 17 تشرين الأوّل 2019”. وهذا المفهوم، يشرّع بشكل تلقائي التمييز بين الودائع الموجودة منذ ما قبل تشرين الأوّل 2019، وودائع ما بعد 17 تشرين الأوّل 2019، وهو ما يقونن كل الإجراءات التي أدّت إلى الاقتصاص من قيمة “الودائع القديمة” عند سحبها، وفقًا للتعاميم والإجراءات التي طبقتها المصارف اللبنانيّة ومصرف لبنان منذ ذلك الوقت.
باختصار، وفي ما يخص النقاش الجاري بندًا بندًا، هذا كل ما تبقّى من نقاط اختلاف. إلا أنّ هذا النقاش منفصل عن نقاش آخر لم يتم حسمه بعد: هل ستقوم اللجان المشتركة بالمصادقة على مشروع القانون وإحالته إلى اللجان المشتركة، قبل استلام مشروعي قانوني إعادة هيكلة المصارف وإعادة الإنتظام إلى القطاع المالي؟ وإذا كان الجواب سلبًا، فكيف يمكن استلام القانونين من الحكومة في ظل الفراغ الرئاسي، الذي يمنعها من الإلتئام والمصادقة على مراسيم مشاريع القوانين؟ كل هذه التساؤلات، تعني ببساطة أن إقرار مشروع القانون في اللجان المشتركة غير مضمون بعد، حتّى في حال تذليل نقاط الاشتباك المتبقية، المرتبطة بالأموال الجديدة والمادة 12.
لجنة تطبيق القانون
على مدى ساعات جلسة يوم أمس، أمضت اللجان المشتركة وقتها لمناقشة اللجنة التي يفترض أن تشرف على تطبيق القانون، إلى أن خلصت إلى الإبقاء على الصيغة التي وضعتها الحكومة في المقترح الأساسي. وحسب هذه الصيغة، ستتكوّن اللجنة من وزير الماليّة وحاكم مصرف لبنان، وقاضٍ من الدرجة 18 وما فوق وخبيرين يختارهم رئيس مجلس الوزراء، كما يمكن أن تستعين اللجنة بمن تراه مناسبًا خلال عملها. وحسب هذه الصيغة، من المفترض أن يصدر مجلس الورزاء قرارًا لتحديد النصوص التطبيقيّة وآليّات عمل اللجنة، وذلك بناءً على اقتراح اللجنة نفسها. إلا أنّ صيغة مشروع القانون لم تحدد أي ضوابط بالنسبة إلى عمل اللجنة، لجهة نصاب الجلسات والقرارات ورئاستها وتحديد جداول الأعمال وغيرها.
الإشكاليّة الأساسيّة هنا ظلّت مروحة الصلاحيّات الواسعة التي تملكها اللجنة من دون أي قيود على الإطلاق، من قبيل صلاحيّة تحديد وتخفيض سقوف السحب من دون حد أدنى، وصلاحيّة وضع شروط الاستثناءات من القيود على السحب والتحويلات. كما تم إعطاء اللجنة صلاحيّات تنظيم عمليّة “إعادة الأموال المتأتية عن الصادرات”، ومراقبة تطبيق القانون وتقديم التقارير الخاصّة بذلك لمجلس الوزراء، بالإضافة إلى تنظيم عمليّات القطع للسحب من الحسابات المصرفيّة بحسب سعر المنصّة. باختصار، تم تسليم اللجنة –ومن ضمن القانون- كل الصلاحيّات التي كانت ممنوحة من خارج القانون لحاكم مصرف لبنان، بحكم الأمر الواقع، إنما من دون أي ضمانات لمصلحة المودعين.
سذاجات ووشايات
على هامش الجلسة، تقدّم النائب جميل السيّد نسخته الخاصّة بمشروع القانون، حيث اقتصرت هذه النسخة على مادّة واحدة مفادها الإجازة “للحكومة بالتنسيق مع مصرف لبنان اتخاذ كافة التدابير والاجراءات والقرارات الرامية الى وضع ضوابط استثنائية وموقتة على التحاويل المصرفية إلى خارج لبنان وعلى السحوبات النقدية في داخله من الحسابات المصرفية بالعملة الاجنبية”.
ويمكن القول أن مقترح النائب جميل السيّد، وإن استهدف رمي كرة النار في أحضان الحكومّة، مثّل قمّة في السذاجة والسطحيّة مقارنة بجميع المقترحات السابقة، خصوصًا أنه يعني عمليًّا إعطاء الحكومة ومصرف لبنان صلاحيّات التشريع بالنيابة عن المجلس النيابي، ووضع القيود التي تحتاجها بمعزل عن أي خطّة تعاف أو أفق زمني أو ضمانات بالنسبة للمودعين. وبهذا المعنى، سيعني هذا المقترح منح الحكومة وحاكم مصرف لبنان القدرة على قوننة كل القيود القائمة اليوم كما هي بكبسة زر، من دون أي معالجات أخرى فعليّة.
كما كان من اللافت حديث النائب ميشال معوّض عن وشايات يتعرّض لها لدى السفارات الأجنبيّة، من قبل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، على خلفيّة اعتراضه على مشروع القانون. وهذا النقاش بحد ذاته أعاد التذكير بالخلافات الحاصلة داخل جمعيّة المصارف نفسها، لجهة طريقة مقاربة ملف خطّة التعافي المالي والكابيتال كونترول. فبينما حرصت بعض المصارف الكبرى، التي تملك مصالح في الخارج، على الدفع باتجاه إقرار القانون، عملت بعض اللوبيات المقرّبة من الجمعيّة على الدفع باتجاه عرقلة إقرار القانون، بانتظار التفاوض على مندرجات قانون إعادة هيكلة المصارف. وبينما كان من الواضح وقوف النائب ميشال معوّض إلى جانب الطرف الثاني، بدا أن رئيس الحكومة استعان ببعض الأطراف الخارجيّة للضغط على المرشّح الرئاسي الحريص على سمعته اليوم في أوساط المجتمع الدولي.
في جميع الحالات، أصبح من المسلّم به لدى الجميع أن ما يجري في موضوع الكابيتال كونترول ليس سوى تمرير للوقت، بغياب الإجماع السياسي حول ضرورة إقرار هذا القانون. كما من الأكيد في الوقت نفسه أن جميع هذه النقاشات لم تعد تستند اليوم إلى أي أهداف اقتصاديّة ملموسة على المدى البعيد، باستثناء حماسة بعض المصارف لإقرار القانون لمواجهة الدعاوى القائمة بحقها، وحماسة فريق رئيس الحكومة للقانون من أجل تمرير أحد شروط التفاهم مع صندوق النقد الدولي.