يعتزم الرئيس نبيه برّي الدعوة الى جلسة عمومية لمناقشة مشروع قانون الموازنة 2024 في 25 كانون الثاني و26 منه وسط اعتقاد باتمام التصويت عليها، مستمد من اتفاق سياسي على المضي في التعديلات التي ادخلتها لجنة المال والموازنة
كان يُقال عن «حتى» انها حتحتت قلوب النحاة. بينهم من راح يقول انه يموت و«في نفسي شيء من حتى» من وفرة ما تحمل من اوجه واعراب. المادة 57 في الدستور تشبهها الى حد بعيد. تتقلب وجوه تفسيرها وصلاحية استخدامها مع الرئيس ومن دونه، كذلك الغالبية التي يتألف منها المجلس قانوناً للاصرار على قانون أعاده رئيس الجمهورية. بفضلها في سني الحرب احتسب البرلمان على الاحياء لا على المقاعد. ذلك ما دار ولا يزال يدور من حولها.ليس مؤدى جلسة التصويت على الموازنة سوى تأجيل الخوض في القوانين الثلاثة المعادة الى مجلس النواب (تعديل ايجارات الاماكن غير السكنية وتنظيم الموازنة المدرسية واعطاء مساعدة مالية لحساب صندوق تعويضات الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة) الى ما بعد هذا الشهر. وربما اكثر في ظل السجاليْن السياسي والدستوري من حولها، دونما ان تنتهي الى الآن. كان البرلمان صوّت عليها في جلستيْ 14 كانون الاول و15 منه مع 11 قانونا، ثم اتخذ مجلس الوزراء مجتمعاً قراراً باصدارها في 19 كانون الاول، قبل ان يفصل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي القوانين الثلاثة عن الرزمة ويطلب عدم نشرها بالتلازم مع عدم توقيعها، ومن ثم أعادها في 12 كانون الثاني الى مجلس النواب لاجراء قراءة ثانية لها، بلا اقتران الاعادة بموافقة مجلس الوزراء تبعاً لقرار منبثق جماعياً منه.
مذ اضحت القوانين الثلاثة في عهدة مجلس النواب، توقف الجدل السياسي من حولها وبَرُد الى حد تنازع القطاعات ذات الصلة بها، وتوسّع الاشتباك الدستوري من حول صلاحيات رئيس الجمهورية، لا سيما في المادتين 56 و57، ناهيك بالنطاق الممنوح للمادة 62 بممارسة صلاحيات الرئيس في خلال شغور منصبه. استنفد الكلام السياسي حده للكثير الذي قيل ان بكركي وراء الضغط على ميقاتي لوقف نشر قانونيْ الهيئة التعليمية ومن ثم ردهما الى مجلس النواب. ثم دخول الرئيس نبيه برّي على خط القانون الثالث المرتبط بايجارات الاماكن غير السكنية مطالبا باعادته الى البرلمان. وراء موقف رئيس المجلس حجج وافية منها تداعيات قانون الايجارات على 320 مدرسة رسمية مستأجرة، وما يزيد على 70 في المئة من المخافر، و17 مقر وزارة، الى عشرات المباني للمصالح والمؤسسات العامة. إذ لن يسع الخزينة اللبنانية مجاراة التعديلات المُدخلة الى القانون ورفع البدلات، فيما هي خاوية.
المفترض ان مناقشة موازنة 2024 والمصادقة عليها تنتهي قبل نهاية هذا الشهر. بيد ان غير المؤكد ان اياً من القوانين الثلاثة ستعاد قراءته قريباً. ثمة دافع آخر قد يساهم في التأجيل، في خضم ما رافق السجالات التربوية والاجتماعية المحيطة بالقوانين الثلاثة بين مؤيد او رافض لها. يكمن الدافع هذا في ان لا مهلة ملزمة او مقيِّدة لمجلس النواب في الدستور كي ينظر فيها، مماثلة لتلك المقيِّدة لرئيس الجمهورية في المادتين 56 و57 باصدار المراسيم والقوانين.
اما ما يتخطى القوانين الثلاثة، فهو عاصفة ردود الفعل حيال نطاق الصلاحيات المنوطة بمجلس الوزراء وكالة عن رئيس الجمهورية باصدار القوانين، وكذلك نطاق الصلاحية المعطاة لرئيس الحكومة بنشر القانون بعد ان يأمر الرئيس او مجلس الوزراء وكالة بنشره، دونما توسع ميقاتي في صلاحية النشر، الملزمة بعد الاصدار، الى حد تعليق الاصدار منفرداً بعد ان يكون قد حصل. توسُّع الاجتهاد ادى الى الحديث السياسي عن صلاحيات لصيقة برئيس الجمهورية لا يملك مجلس الوزراء ممارستها ولا حتماً حلول رئيس مجلس الوزراء عنه فيها، وعن تجاوز ميقاتي الصلاحيات المنوطة بمجلس الوزراء كي يتخذ منفرداً قراراً لم يصدر عن المجلس.
في ما يؤكده الرئيس السابق لمجلس شورى الدولة والوزير السابق للعدل جوزف شاوول، بالاستناد الى الفقيه الفرنسي Léon Duguit، ان لمجلس الوزراء ممارسة كل الصلاحيات الدستورية المنوطة برئيس الجمهورية عند شغور منصبه ما خلا اثنتين، هما توجيه رسائل الى مجلس النواب الذي يُعد «امتيازاً خاصاً للرئيس وليس وظيفة» وحلّ مجلس النواب. باستثنائهما كل الصلاحيات تمسي في عهدة مجلس الوزراء عملاً بالمادة 62 المستمدة من المادة السابعة في قانون 25 شباط 1875 (الجمهورية الثالثة).
ما يورده شاوول هو نفسه ما بُنيت عليه قرارات لمجلس الشورى الذي ترأس سنوات طويلة، باصداره قرارات عدة في مراجعات توقفت عند الصلاحيات المنتقلة الى مجلس الوزراء وكالة. اولها قراره رقم 74 الصادر في 16 تشرين الثاني 1995 في مراجعة اللواء منير محمود مرعي ضد الدولة اللبنانية – مجلس الوزراء ووزارة الدفاع.
في ما اتى عليه قرار مجلس الشورى حينذاك برئاسة شاوول وعضوية رؤساء الغرف عزت الايوبي واسكندر فياض ورشيد حطيط والمستشارين نجلا كنعان واندره صادر وسهيل بوجي: «بما انه يستفاد من احكام المادة 62 من الدستور قبل وبعد تعديلها بالقانون الدستوري عام 1990 ان صلاحيات السلطة الاجرائية او صلاحيات رئيس الجمهورية تمارس بصورة جماعية من مجلس الوزراء، وبما ان في استطاعة مجلس الوزراء المناط به السلطة الاجرائية او صلاحيات رئيس الجمهورية بعد التعديل الدستوري ان يمارس من دون اي قيد جميع الصلاحيات التي تمارسها دستورياً السلطة الاجرائية اي رئيس الجمهورية. وبما انه يجب ان توقع المراسيم التي تصدر عن مجلس الوزراء عند ممارسته السلطة الاجرائية من رئيس مجلس الوزراء باسم مجلس الوزراء المناطة به ممارسة تلك السلطة ومن الوزير او الوزراء المختصين…».
بعد القرار 74 قرارات عدة مماثلة في النطاق نفسه عن مجلس القضايا في مجلس شورى الدولة: القرار 164 في 19 كانون الاول 1996 (اللواء منير مرعي اعادة محاكمة)، القرار 138 في 11 كانون الاول 1996 (اللواء جورج حروق)، القرار 70 في 3 تشرين الثاني 1997 (اللواء القيم عبدالله الخوري)، القرار 133 في 4 كانون الاول 1997 (اللواء سمير متري).
في ما يستخلصه شاوول والقرارات تلك:
1 – ان مجلس الوزراء بالانابة – العبارة الادق بحسبه للترجمة المنقولة عن الفرنسية عوض «وكالة» – يمارس صلاحيات رئيس الجمهورية كلها ما خلا اثنتين هما توجيه الرسائل وحل مجلس النواب.
2 – لمجلس الوزراء استخدام الصلاحية الكاملة المنصوص عليها في المادة 57 في الدستور بأن يحل محل الرئيس في ممارستها. ما ان يفعل الرئيس (في ولايته) او مجلس الوزراء بالانابة عنه (في الشغور) باستعمال حقه في الاصدار، لا تعود ثمة اهمية لتوقيف النشر اياً يكن مصدره – ورئيس مجلس الوزراء هو المعني به – اذ بانقضاء مهلة الشهر على صدور القانون يصبح نافذاً للتو ما لم يُعَد الى مجلس النواب. مجلس الوزراء بالانابة هو مَن يملك مجتمعاً صلاحية الاصدار والاعادة الى مجلس النواب. كلاهما، الرئيس ومجلس الوزراء في الحالتين المختلفتين، يخضعان للمهلة المقيدة بالنفاذ ان لم يصدر القانون.
في ما مضى كان الرئيس الراحل حسين الحسيني يروي امام زواره مبرر اضافة فقرة اخيرة الى المادة 57 لم تكن مرة في اصلها منذ عام 1926، مؤداها ان «في حال انقضاء المهلة من دون اصدار القانون او اعادته يعتبر نافذاً حكماً ووجب نشره». اما السبب، فما درج عليه رؤساء متعاقبون للجمهورية بتحفظهم عن قانون اقره مجلس النواب بأن جمدوه ووضعوه في جواريرهم ومنعوا الافراج عنه. خبُرَ الحسيني التجربة في عهد الرئيس امين الجميّل. آخر من احجم عن توقيع قانون اقره مجلس النواب الا انه اضحى نافذاً في معزل عن رئيس الجمهورية، كان الرئيس ميشال عون باعتراضه على قانون الانتخاب المصوَّت عليه في 19 تشرين الاول 2021، بأن اعاده الى المجلس في 22 تشرين الاول. اصر البرلمان على تعديلات القانون فامتنع الرئيس عن توقيعه، فصدر في 3 تشرين الثاني 2021 بالقانون النافذ حكماً رقم 8.
3 – لرئيس الحكومة ان يوقع محل رئيس الجمهورية في المراسيم الصادرة عن مجلس الوزراء بالانابة مجتمعاً، على ان يقترن توقيعه بتوقيع الوزير المختص او الوزراء المختصين دونما الحاجة الى تواقيع كل الوزراء الاعضاء في المجلس. في القرار 74 ان «المراسيم التي تصدر عن مجلس الوزراء المناطة به موقتاً صلاحيات السلطة الاجرائية او صلاحيات رئيس الجمهورية، يجب اذن ان تصدر بعد موافقة مجلس الوزراء وان تحمل على الاقل اضافة الى توقيع رئيس مجلس الوزراء توقيع الوزير المختص او الوزراء المختصين، كما لو كان المرسوم صادراً عن رئيس الجمهورية عملاً بصراحة احكام المادة 54 من الدستور».