جمرك الهواتف الخلوية: الفوضى تتكلّم…

العجائب والغرائب اللبنانية أشكال وألوان. ورفع الدولار الجمركي لم يتأخّر في مضاعفة الأشكال أشكالاً والألوان ألواناً. ففوضى فرض الرسوم الجمركية على أجهزة الهاتف الخلوي أطلّت برأسها ووصلت بسرعة قياسية إلى حدود اللامفهوم. مثلاً، قيمة الرسم الجمركي على جهاز Apple iPhone 13 Pro هي الآن 400 ألف ليرة في حين تخطّى الرسم المماثل على جهاز Apple iPhone 13 – الأقل سعراً وذات الخصائص الأكثر محدودية – المليوني ليرة. كيف ولماذا ومن المسؤول؟

لا يصعب على المتابع رصد شكاوى المواطنين وأصحاب محال بيع الأجهزة الخلوية بالجملة مؤخّراً. وليس آخرها تلقّي العديد من المستخدمين رسائل هاتفية من قِبَل وزارة الاتصالات تطالبهم بتسديد الرسوم الجمركية مجدّداً رغم تسديدها منذ سنة أو أكثر، تحت طائلة وضع الخط خارج الخدمة. التسعير العشوائي – كما يوصّفه كثيرون – يصاحبه تمنّع إدارة الجمارك عن تقديم التوضيحات اللازمة. في الأثناء، «عصابات» تهريب الأجهزة و»أباطرة» التهرّب الضريبي ينشطون. والمواطن «يأكل الضرب» دائماً وأبداً.

بين المالية والجمارك والإتصالات

نذهب مباشرة إلى وزارة المالية التي يخبرنا مصدر مطّلع فيها أن لا علاقة للوزارة بالرسوم المفروضة على أجهزة الخلوي. فإدارة الجمارك – لا صناديق المالية – هي التي تستوفي الرسوم، كما نسمع. نطرح السؤال على أكثر من مصدر في إدارة الجمارك – كما على رئيس المجلس الأعلى مباشرة – لكن التمنّع عن الإدلاء بأي معلومات كان السمة المشتركة ردّاً على أسئلتنا.

ننتقل إلى وزير الاتصالات، جوني القرم، الذي يوضح في حديث لـ»نداء الوطن» أن إدارة الجمارك هي التي تحدّد التسعيرة ولا علاقة لوزارته سوى بتطبيق ما يصدر عن الإدارة المذكورة. القرم الذي عزا ارتفاع الأسعار مؤخّراً إلى الشروع بتحصيل الرسوم على سعر صرف 15000- بدلاً من 1500 – ليرة، رأى أن لا تفسير للتأخير في تسديد الرسوم الجمركية على أجهزة الهواتف القديمة سوى تهريبها أو إدخالها بصورة غير قانونية إلى لبنان.

الحق على «السيستم»؟

نشكر الوزير ونتواصل مع مصدر آخر في الوزارة فيفيدنا أن الأخيرة سبق وتقدّمت من إدارة الجمارك بطلب إيجاد حلّ لتغيير الرسوم الجمركية المفروضة على الأجهزة القديمة، إذ «من غير المنطقي أن تُدفع على أجهزة I Phone 10، مثلاً، رسوم أعلى من تلك المفروضة على الأجهزة الحديثة في حين أن استيراد الأولى توقّف منذ فترة طويلة، والمفروض أن تكون رسوم هذه الأجهزة قد سُدّدت لدى دخولها إلى لبنان». فهل نجحت الوزارة في ذلك؟ «ليست مناقشة الأسعار من صلاحيات الوزارة لأن المجلس الأعلى للجمارك هو من يحدّدها والوزارة جهة تنفيذية لا تقريرية. والحال أن التسعيرة الصادرة عن إدارة الجمارك تُدخَل كما هي إلى «سيستم» النظام الإلكتروني لوزارة الاتصالات»، بحسب المصدر.

بالحديث عن النظام الإلكتروني، ما هو الدور المناط به؟ يجيب المصدر بأنه تمّ العمل به لأسباب أربعة: الأول – والأهم – هو لمنع التهريب وبالتالي مكافحة التهرب الضريبي؛ ثانياً للحدّ من دخول أجهزة من دون رمز معرّف الجهاز المحمول الدولي (IMEI) وذلك لأسباب أمنية؛ ثالثاً لدواعٍ صحية كون بعض الأجهزة المستوردة من دول ككوبا أو الصين تصدر طاقة بقوة 6 واط في حين أن الأخيرة يجب ألا تتخطى 2 واط ما يؤثّر سلباً على أذن المستخدم؛ أما أخيراً فلتقليص الأحمال الإضافية على الشبكة التي تسبّبها الأجهزة غير الأصلية نتيجة عمليات تحديث الموقع (location update) التي تقوم بها.

لمَ اليوم؟

المصدر يضيف أنه «لم ترد إلى الوزارة أي شكاوى ذات صلة بتسديد الرسم الجمركي مرّتين رغم أننا لا ننفي حصول أخطاء مماثلة، وفي هذه الحال يمكن للمواطن مراجعة وزارة الاتصالات واسترداد المبلغ الذي دفعه»، على حدّ قوله. فهل من علاقة بين إعادة تفعيل النظام الإلكتروني (علماً أن العمل به قد توقّف منذ العام 2019) ودخول الدولار الجمركي الجديد حيّز التنفيذ؟ العلاقة بين الأمرين منتفية، بحسب المصدر. فالنظام توقّف مع بدء ثورة تشرين وما تلاها من أزمات صحية واقتصادية، ما أجبر النقاط التي يتم فيها تسديد الضرائب والرسوم – على غرار LibanPost – على الإغلاق. «وشعوراً من الوزارة بمعاناة المواطن، تواصل إرسال الرسائل النصية والمطالبة بتسديد الرسوم المستحقّة لكن دون وضع أي خط خارج الخدمة. وهذا ما جعل المستخدم يظنّ أنه أُعفي من الرسوم. لكن بعد أن تمّت إعادة تفعيل النظام منذ فترة، راحت الوزارة تطالب جميع المستخدمين بدفع الرسوم على سعر صرف 1500 ليرة قبل رفع الدولار الجمركي، لكن التجاوب كان محدوداً. فما هو المطلوب من الوزارة غير تطبيق القانون وإيقاف أي خط لم يُسدّد صاحبه الرسوم المتوجّبة عليه؟»، يشير المصدر نفسه متسائلاً.

التذاكي يتسلّل

ثمة من يقول إن الفوضى مفتعلة عمداً. وبغياب الإجابات الشافية من الجهات الرسمية، حملنا السؤال إلى الصحافي الاستقصائي، رياض قبيسي، الذي شرح بداية كيفية احتساب الضرائب والرسوم على أجهزة الهاتف الخلوي: «إذا كان سعر الجهاز ألف دولار، مثلاً، يضاف إليه 5% بدل رسوم ليصبح سعره 1050 دولاراً. ثم تُزاد إلى ذلك الضريبة على القيمة المضافة بنسبة 11%، فيصبح السعر الكلّي للجهاز 1165 دولاراً». ما يحصل اليوم، إذاً، هو أن مبلغ الـ165 دولاراً الذي كان يُسدّد على سعر صرف 1500 ليرة بات يسدّد على سعر صرف 15000، ومن هنا الارتفاع الملحوظ في قيمة الرسوم.

لكن المنطق يفترض أن تُحتسب الرسوم تبعاً لتاريخ دخول الهاتف إلى لبنان، أي على سعر الصرف القائم في حينه. «هنا تكمن الحلقة الضائعة وبيت قصيد الإشكالية المطروحة، وهذا ما يتعيّن على إدارة الجمارك أن توضحه»، كما يقول قبيسي. ثم أنه عندما تقع الإشكاليات، يرتفع منسوب التذاكي. فقد قام العديد من التجار بإدخال كميات كبيرة من الهواتف قبل رفع الدولار الجمركي. وتصويباً لذلك، يجب أن تسدَّد رسوم الهواتف المجمركة حديثاً على سعر 15000. لكن السؤال التعجيزي يتمحور حول احتمال عدم «جمركة» هذه الهواتف أصلاً. أهي مهرَّبة أم دخلت الأراضي اللبنانية للاستخدام الشخصي أو كهدايا؟ وكم تبلغ نسبة الأجهزة التي دخلت البلد في وضعية مماثلة؟

المتابعون يتخوّفون من أن يكون جرى إدخال الهواتف تلك إلى السوق اللبنانية ووضعها في الاستخدام من دون أن تخضع للرقابة الجمركية، وهي الفرضية الأكثر ترجيحاً. «بِغَض النظر عن تاريخ دخول الهواتف إلى لبنان، يُفترض أن تُسدّد رسومها على سعر صرف 15000 ليرة وذلك لجماً لعمليات التهريب التي حصلت ولاستغلال التجار للوضع الراهن. فقد كان حريّاً بإدارة الجمارك ووزارة الاتصالات تبليغ المواطنين بضرورة تسديد رسوم هواتفهم قبل نهاية شهر تشرين الثاني من العام المنصرم»، كما ينهي قبيسي.

…والإيضاحات مطلوبة

لدى المستشار والخبير في التحوّل الرقمي وأمن المعلومات، رولان أبي نجم، ما يدلي به في هذا الخصوص. فقد لفت في اتصال مع «نداء الوطن» إلى وجود الكثير من الشركات والمؤسسات الحزبية المعروفة الانتماءات التي تُدخل البضاعة عبر المطار أو المرفأ من دون دفع أي رسوم جمركية عليها. كما أن هناك محالَّ معروفة في بعض المناطق تقوم ببيع الهواتف أقل من سعر السوق بواقع 100 أو 200 دولار. وذكّر أبي نجم بفضيحة تغيير تواريخ إدخال كمية كبيرة من أجهزة الخلوي التفافاً على النظام الإلكتروني لوزارة الاتصالات وتهرّباً من تسديد الضرائب على سعر الدولار الجمركي الجديد (ما يوازي أكثر من 17 مليار ليرة على صعيد التهرّب الضريبي في موضوع تزوير التواريخ فقط). وتابع: «مثل أي شيء آخر في لبنان، ثمة ناس بسمنة وناس بزيت. فهناك من يدفع رسوم المالية والضرائب في حين أن مؤسسات معيّنة تتهرّب منها بالكامل. هذا يخلق تفاوتاً في سعر الكلفة وبالتالي في سعر البيع. وفي الحالتين يكون المواطن الضحية الأولى والأخيرة».

أما في ما يتعلّق بتفاوت قيمة الرسوم الجمركية المفروضة على الأجهزة والفوضى المتأتية عن ذلك، فقد طالب أبي نجم إدارة الجمارك بمزيد من التفاصيل إيضاحاً لكيفية وضع القانون ذات الصلة وحيثياته والأسس التي يُطبَّق على أساسها والتواريخ التي تُحتسب الرسوم بناء عليها. «يُفترض أن تكون إدارة الجمارك قد أجرت تحقيقاً شاملاً حول تواريخ إدخال الهواتف إلى الأراضي اللبنانية، لكن، أسوة بالتحقيقات الأخرى، أُغلق الملف. المسألة ترتبط بشكل مباشر ومؤكّد بإدارة الجمارك لأننا نعلم جميعاً أين وكيف يحصل التهريب والتلاعب بالمستندات»، والكلام لأبي نجم.

لِمَن لا يعلم، لبنان هو من حيث المبدأ البلد الوحيد الذي يُسدّد فيه المواطن الرسوم الجمركية على الهواتف الخلوية المشتراة من الخارج مرّتين: الأولى في بلد الشراء والثانية في لبنان لئلا يوضع الخط خارج الخدمة. طبعاً، الهدف المعلن من ذلك الإجراء هو الحد من الخسائر التي تتكبّدها الخزينة نتيجة لأعمال التهريب. ويبقى التهريب مستمراً والإيضاحات مطلوبة.

 

مصدرنداء الوطن - كارين عبد النور
المادة السابقةالكهرباء دائماً وأبداً… بين فساد الخطط والنكد السياسي
المقالة القادمةالملاك والمستأجرون… يقلّعون شوكهم بأيديهم!