جمعيّة المصارف تفتح أوراقها: قدسيّة الرساميل لا الودائع

في افتتاحيّة التقرير الشهري لجمعيّة المصارف، كتب أمينها العام معيداً التذكير بمطلب المصارف الدائم: لحظ الطابع “النظامي” للأزمة، في القوانين التي يجري العمل عليها لإعادة هيكلة القطاع. وعبارة “الأزمة النظاميّة”، في العلوم الماليّة، يُفترض أن تشير إلى أنّ الانهيار لم يقتصر على مؤسّسة مصرفيّة محدّدة، بل أصاب النظام المالي بأسره، أي أنّ المشكلة طالت مختلف أوجه العلاقة ما بين المصارف والمصرف المركزي وماليّة الدولة. وهو ما حدث بالفعل.

من حيث المبدأ، لا يوجد إشكال في تصنيف الأزمة على هذا النحو، طالما أنّ خصائصها تطابق تعريف المفهوم كما نعرفه في تقارير المؤسّسات الدوليّة. لكن للمصارف اللبنانيّة تعريفها الخاص لمفهوم “الأزمة النظاميّة”، بما يعيد تفسير أسباب الأزمة ومسؤوليّات المصارف، وبالتالي القدر الذي سيتحمّله أصحاب المصارف من الخسائر. افتتاحيّة خلف، قدّمت التوصيف المتكامل لما تريده المصارف بعبارة “الأزمة النظاميّة”، ولأهداف المفاوضات التي تخوضها حالياً على جبهات متعدّدة، بخصوص قانون الفجوة الماليّة.

وبعد أن شهرت اللوبيات المصرفيّة طويلاً شعار قدسيّة الودائع، في مواجهة خطط إعادة هيكلة القطاع، عادت افتتاحيّة النشرة الشهريّة لتكشف الأوراق: المطلوب حماية رساميل المصارف خلال عمليّة إعادة الهيكلة، أي حصص أصحاب المصارف في مؤسّساتهم، بدلاً من شطب هذه المساهمات، لإعادة الرسملة عبر استقدام مساهمات وسيولة جديدة من مصرفيين جدد أو حاليين. أي بلغة أوضح: المطلوب ألا يتحمّل المصرفيون حصّة من الخسائر.

مفهوم الأزمة النظاميّة

في نص الافتتاحيّة، يتوسّع خلف في شرح معنى “الأزمة النظاميّة”، بطريقة غريبة وغير مألوفة. نظاميّة الأزمة، تعني أنّها تتجاوز “بكثير دور المصارف”، وبالتالي “رفض تحميل المصارف مسؤوليّتها”. بطبيعة الحال، ثمّة خفّة لا يمكن وصفها في هذا الربط ما بين توصيف الأزمة ومسؤوليّاتها. فكون الأزمة نظاميّة، وكون تداعياتها طالت جميع مفاصل النظام المالي، لا يعفي المصارف التجاريّة من مسؤوليّاتها بخصوص الانهيار الحاصل أو أسبابه، أو توزيع الخسائر الذي سيليه. الأزمة النظاميّة تعني أنّ الفشل توسّع وانتشر عبر النظام، لكنها لا تبرّئ الإدارات المصرفيّة والنخب الماليّة من أسباب الفشل ومسؤوليّاته.

لقد كانت الأزمة الماليّة آيسلندا نظاميّة، لكن هذا الواقع لم يبرّئ القطاع المصرفي من مسؤوليّاته في الاعتماد المفرط على سياسات عالية المخاطر، والتوسّع المتهوّر وغير المدروس، والمغامرة بأموال المودعين. ولهذا السبب، تحمّل المصرفيون هناك مسؤوليّاتهم، بداية من خسارة ملكيّة المصارف، ووصولاً إلى محاكمتهم. وكذلك حصل في قبرص، التي شهدت أزمة لا يمكن وصفها إلا بالـ “نظاميّة”، لكنّها أسفرت عن خسارة المصرفيين لأسهمهم، واعتماد الـ Bail-in لإعادة رسملة المصارف واستقدام مساهمين جدد.

باختصار، يمكن أن تكون الأزمة نظاميّة، ويمكن أن يتم تحميل قدراً ضخماً من المسؤوليّة للسياسات النقديّة التي تم اعتمادها في مصرف لبنان في أيّام الحاكم السابق، سيّء الذكر، وكذلك للسياسات الماليّة للحكومات والعهود المتعاقبة والنخب السياسيّة، التي لا يقل ذكرُها سوءًا. وفي الوقت نفسه، يمكن أن تتحمّل إدارات المصارف مسؤوليّتها في المغامرة بأموال المودعين، عبر توريط هذه الأموال في مخطّطات احتياليّة واضحة المعالم والأهداف. فكيف إذا كنّا نتحدّث عن شبكات متداخلة من المصالح، ما بين القطاع المصرفي والقيّمين على الشأنين المالي والنقدي؟

ببساطة، مفهوم الأزمة النظاميّة لا يرتبط بتوزيع المسؤوليّات، وفقاً للفهم الذي تتبناه جمعيّة المصارف.

الدفاع عن رساميل المصارف

بعد تقديم هذا الفهم المشوّه لمفهوم الأزمة النظاميّة، ينتقل خلف لعرض مطالبه. فالجمعيّة ترفض تصفير رساميل المصارف، أي “حقوق” أصحاب المصارف في مؤسساتهم، وهي تطالب باحتساب زيادات رأس المال التي قدّمها أصحاب المصارف خلال الأزمة، كجزء من “إعادة الرسملة المستقبليّة”. بعبارة واضحة، تريد المصارف أن يحتفظ المصرفيون بمساهماتهم، في المصارف التي يملكونها، ولا تريد شطب هذه المساهمات لاستقدام مساهمات وأموال جديدة. وفي النتيجة، تريد إعفاء المساهمين من نصيبهم من الخسارة، حتّى بعد تحميل كل الأطراف الأخرى بمن فيهم أصحاب الودائع، أنصبة مختلفة من الخسائر.

لم تكن صدفة أن يكتب خلف هذا الكلام، في هذا التوقيت بالذات. فالافتتاحيّة جرى نشرها عقب جولة وفد الجمعيّة الأسبوع الماضي، والتي شملت زيارات إلى وزيريّ الماليّة والاقتصاد، ثم حاكم مصرف لبنان. والمطلب الأساسي لوفد الجمعيّة، كان تحييد رساميل أصحاب المصارف عن آليّات توزيع الخسائر، بما يحافظ على سيطرة المصرفيين في مصارفهم، ومن دون الاضطرار لاستقدام سيولة جديدة لإعادة تكوين مساهماتهم. والعُذر، للحفاظ على هذه الرساميل، هو طابع الأزمة النظامي، الذي يُعفي المصارف عن مسؤوليّات الانهيار، بحسب هذا المنطق.

حتّى هذه اللحظة، ترك وزيرا الماليّة والاقتصاد هامشاً للمناورة في التفاوض مع جمعيّة المصارف، إذ ربطا مصير الرساميل و”حقوق” المساهمين بعمليّة التدقيق في الميزانيّات المصرفيّة، لكشف المخالفات التي ساهمت في تعظيم الخسائر. أمّا المصارف المُمثّلة في الجمعيّة، فانقسمت آراءها بين المرحّب والمتحفّظ بتدقيق من هذا النوع. وهذا الانقسام كشف اختلاف المصارف، من جهة تورّطها في العمليّات التي سيحاول التدقيق كشفها، والتي ستؤثّر في مستقبل مساهمات أصحاب المصارف داخل مؤسّساتهم.

في جميع الحالات، ما تطلبه جمعيّة المصارف اليوم يتعارض مع ألف باء إدارة الأزمات الماليّة، حيث تطرح البدء بتوزيع الخسائر على سائر الدائنين ومنهم المودعين، قبل استنفاد قدرة الأموال الخاصّة، أي أسهم المالكين، على تحمّل هذه الخسائر. وهذا التدرّج في الحقوق والمطالب يُعد خطوة غير مألوفة في إدارة الأنظمة الماليّة، بل ويتعارض مع بديهيّات عمل الاقتصادات الرأسماليّة. وإذا نجا المساهمون اليوم من توزيع الخسائر، بعد كل المكاسب التي جرى تحقيقها قبل الأزمة على حساب المودعين، فمن يضمن عدم تكرار الأزمة بالطريقة نفسها مستقبلاً، إذا تكرّرت الظروف والأطماع؟

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةطلبات «جادّة للغاية» من «الخزانة الأميركية» للبنان… ومهلة لتجفيف تمويل «حزب الله»
المقالة القادمة“أرز ARZ 2025” : مرفأ بيروت يستعدّ لحالات الطوارىء