بقيت القرى الحدودية الجنوبية لعقود خارج جدول الإنماء الاقتصادي، تارة بفعل الاحتلال الإسرائيلي، وتارة أخرى نتيجة إهمال الدولة. على أنّ بعضاً من أشكال الحداثة الاقتصادية، نَبَتَ في أرض تلك المنطقة، بفعل عودة الكثير من أبنائها بعد التحرير في العام 2000، وافتتاحهم مشاريع اقتصادية إلى جانب النشاط الزراعي، لدعم بقائهم في أرضهم. واليوم، بعد حرب دمّرَت المنطقة بشكل كامل، يظهر طرح أميركي بتحويل المنطقة الحدودية إلى منطقة اقتصادية، تهدف إلى تنميتها علّ ذلك يسهم في استقرارها أمنياً. لكن هل يتحقّق هذا الطرح، وكيف يراه أهل القرى الحدودية؟.
الاقتصاد يضمن الاستقرار
في الأصل، تدعم التنمية الاقتصادية الاستقرار الأمني في أي دولة، عبر خلق فرص العمل ودعم الاستقرار الاجتماعي وتوزيع الموارد بعدالة، وتالياً زيادة ثقة السكّان بالدولة ومؤسساتها. لكن شرط أن تحصل التنمية بقرار من الدولة، انطلاقاً من دراسات اقتصادية واجتماعية معمّقة، يتخلّلها ربط الأطراف بالمركز عبر بنى تحتية ملائمة وآليات لتأمين المواد الأولية وتصريف الإنتاج وتأمين الخدمات الضرورية. إلاّ أنّ ذلك يتناقض مع الفكرة المبتورة التي طرحها المبعوث الأميركي توم برّاك، كحلّ أميركي يُبعِد المنطقة الحدودية وسكّانها عن حزب الله وسلاحه. فالطرح لم يأتِ من الدولة اللبنانية، بل من لاعبين أساسيين في الصراع الإقليمي الذي يهدف إلى التهدئة وفق الشروط الأميركية – الإسرائيلية، وإن كان ذلك على حساب سكّان الجنوب اللبناني، وبالتالي تنطلق تلك التنمية المزعومة من خلل جوهري، يتعلّق اقتصادياً بصاحب القرار وبحدود وشروط المشاريع الاقتصادية وبمستقبل الأرض وأهلها، ويتعلّق أمنياً بمقوّمات التهدئة المستدامة.
رفض منهجي
يتمنّى أهل القرى الحدودية الجنوبية أن تتحوّل قراهم إلى قبلة اقتصادية تؤدّي إلى إنعاش القرى ورفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي لأبنائها. لكن فكرة تحويل ما كان يسمّى بالشريط الحدودي، إلى منطقة اقتصادية انطلاقاً من قرار سياسي أمني عقب حرب مدمّرة، لا يستسيغه أهل الجنوب، لأسباب كثيرة. ولأهل الجنوب منهجيّتهم التي تخلص لرفض الفكرة بمهدها، وقبل توسيعها لاحقاً بطروحات عملية.
اقتراح تحويل القرى الحدودية إلى منطقة اقتصادية “لا يعدو كونه زوبعة في فنجان”، وفق ما يقوله منسّق تجمّع أبناء القرى الجنوبية الحدودية، طارق مزرعاني، الذي يرى في حديث لـ”المدن” أنّه إذا أردنا نقاش هذا الطرح جدياً، فإنّ تضاريس المنطقة الجبلية والتي تتساقط الثلوج على معظمها، يصعِّب تحويلها إلى منطقة صناعية. كما أنّ المناطق الصناعية تحتاج إلى أرض منبسطة وسهلية وليس إلى جبال ووديان كما هو حال منطقتنا. كما تحتاج المنطقة الصناعية إلى بنية تحتية مؤهّلة وإلى مواصلات سهلة، وهذا الأمر غير متوفّر في المناطق الحدودية، الأمر الذي يصعِّب عملية تأمين المواد الأولية للصناعات. فضلاً عن الحاجة لضمان أسواق تصريف لتلك الصناعات”.
وبالتوازي، فإن طبيعة النشاط الزراعي الموجود في المناطق الحدودية، يدعو للتساؤل عمّا إذا كانت المنطقة الصناعية المزعومة “ستقضي على الزراعة الموجودة”. أمّا في حال اقتراح مشاريع صناعية تستوعب المزروعات “فسنكون في تلك الحالة أمام صناعات لتعليب المنتجات الزراعية، وبالتالي لا ترقى تلك الصناعات إلى مرتبة تحويل المنطقة إلى منطقة صناعية بالمعنى الواسع للفكرة”.
ويقول مزرعاني الذي يعمل مهندساً معمارياً، أنّ طرحاً كبناء منطاطق صناعية “عليه أن ينبع من دراسات عميقة يقوم بها مختصون من مهندسين ومخطّطي مدن وخبراء وعلماء اجتماع واقتصاد وتاريخ، وتُطرح الفكرة للنقاش العام وتمر سنوات حتّى تُقَر. فالمنطقة الحدودية فيها آثار ومعالم تاريخية ودينية ترتبط بتاريخ المنطقة، إلى جانب النشاط الزراعي المتجذّر فيها”.
في المقابل “لا يوافق أبناء القرى على ترك أراضيهم ومنازلهم بهذه البساطة، حتى لو أتى الطرح من الدولة اللبنانية، فما بالك إن طرحت الفكرة من قِبَل العدوّ”. ويعتبر مزرعاني أنّ الرفض “لا يرتبط ببيئة سياسية معيّنة أو حزب محدّد، بل هو محطّ إجماع من كل أبناء الرى الحدودية، لأن هذا الأمر يتخطّى السياسة ويرتبط بجذورنا وإنسانيّتنا ووجودنا، ولا أحد من أبناء القرى يقبل بأنّ يترك أرضه ليعيش في منطقة أخرى، مهما كانت المغريات”.
ويضع مزرعاني هذا الطرح في سياق “سياسة العصا والجزرة، من خلال الترغيب بإنعاش المنطقة وانطلاق الأعمال فيها وإغراء بعض النفوس الضعيفة، وهذا طرح فيه نوع من استغباء للناس ولن ينطلي على أهلنا الذين يرفضون رفضاً قاطعاً وباتّاً، كل ما يتسرب من خطط للمنطقة الحدودية، ويريدون عودة القرى إلى ما كانت عليه قبل الحرب”.
أسئلة كثيرة
ما يُطرح من تغيير في بنية المنطقة الحدودية، وإن على سبيل الفكرة الأولية، يترافق مع خطوات لتهجير السكّان وانتقاء مَن يحق له دخولها والعمل فيها. أمّا أغلبية السكّان، فسيجري إغراؤهم بالأموال والتقديمات ليجدوا منازل وأعمال خارج المنطقة الحدودية. وفي هذه الحالة نكون أمام معضلتين أساسيّتين، الأولى تتمحور حول مَن يملك قرار الإبعاد وانتقاء المبعدين، والثانية حاجة الصناعات إلى سكّان ويد عاملة، وهذا ما يلفت النظر إليه ابن بلدة عيترون، طريف سلامة، الذي يعمل في قطاع الكهرباء. فبالنسبة إليه “من غير المنطقي الحديث عن مناطق اقتصادية خالية تماماً من السكان”. ويتساءل في حديث لـ”المدن” حول “طبيعة المنطقة الاقتصادية المفترضة ومَن سيعمل بها ومَن سينتقي اليد العاملة أو السكّان الذين سيبقون فيها؟”.
يرى سلامة أنّ “لا معطيات واضحة حول هذه الفكرة التي تنطلق من البعد السياسي والأمني وليس الاقتصادي، ولذلك علينا تكثيف الأسئلة حولها”. ومن أبرز الأسئلة التي تحتاج إلى إجابة واضحة، هي “هل الدولة اللبنانية شريك في هذا الطرح أم مفروض عليها، والإجابة عن هذا السؤال تحدّد موقف الدولة من الوجود السكاني في المنطقة الحدودية ومن قرارها بتأمين البنية التحتية والخدمات للمنطقة”.
يقفز سلامة فوق كل الاعتبارات والأفكار المطروحة، ليجزم أنّ “الهدف من المنطقة الاقتصادية هو تهجير السكّان. وفي ظل التوتّر الأمني المستمر بسبب وجود عدوّ تاريخي على الحدود، لا يمكن إقامة أي منطقة اقتصادية وإن ساد الهدوء الأمني لسنوات، فالتوتّر سيبقى قائماً”.
بين إسرائيل ولبنان
يضحك أحد رجال الأعمال المنحدر من إحدى القرى الحدودية، خلال حديثه لـ”المدن” عن منطقة اقتصادية على الحدود. فبعيداً من طبيعة الأرض ونيّة تهجير السكان، إن “إسرائيل لن ترضى بتنمية المناطق الحدودية اللبنانية على غرار تنميتها لمناطقها الحدودية مع لبنان، بل كانت ترحّب بعدم تنمية المنطقة اقتصادياً طيلة نحو 25 عاماً من انسحابها من المنطقة، وهذا يعود إلى عدم قيام المافيا التي حكمت لبنان، بأي مشروع اقتصادي تنموي على الحدود، ولن ترضى اليوم بأن تدخل المشاريع الصناعية والزراعية إلى الجنوب”. وفي المقابل “تهتم إسرائيل بتنمية المناطق الحدودية من ناحيتها، فنرى على بُعد أمتار، المناطق الزراعية وبساتين التفاح وبعض المصانع على الحدود مباشرة، وذلك يعود إلى اهتمام حكومتهم بالتنمية الحقيقية لمناطق سيطرتهم، ولن تسمح بالتالي في تنمية مناطقنا لتصبح منافسة اقتصادياً لمزروعاتهم وصناعاتهم”.
أقصى ما يمكن لإسرائيل قبوله “هو تحويل الجنوب إلى محيط يأكل ويشرب فقط، لكن من دون تنميته اقتصادياً. أمّا إذا وافقت على أبعد من ذلك، أي على تهجير السكان وإنشاء مناطق صناعية باستثمارات ضخمة، فهذا يستدعي التساؤل عمّا إذا كانت قد اشترت المنطقة بشكل غير مباشر”.
منطقة اقتصادية وهمية بنفوذ إسرائيلي، تُطرح للجنوب. وحتى اللحظة لا تزال فكرة غير قابلة للحياة، إلاّ إذا صار هناك تحوّلات أكبر ممّا هي عليه المنطقة حالياً. والغريب أمام هذا الطرح، عدم تفاعل الدولة اللبنانية رفضاً حتى للفكرة، ما يشجّع أبناء الجنوب على التمسّك بأرضهم والثقة بأنّ خلفهم دولة لن تتخلّى عنهم.



