جذبت جولة المبعوث الفرنسي إلى لبنان، جان إيف لودريان، الاهتمام السياسي والإعلامي. وهو ما أشاح النظر عن تطوّرات جولة بعثة صندوق النقد الدولي، التي حصلت خلال اليومين الماضيين. ما رشح عن لقاءات البعثة حتّى هذه اللحظة، يوحي بأنّ الاتفاق المبدئي الموقّع مع الصندوق بات على شفير السقوط التام، أو سقط بالفعل، في ظل المواقف اللبنانيّة الشعبويّة التي أعادت البلاد إلى مرحلة العام 2020. أي إلى مرحلة إسقاط خطّة لازارد من دون تقديم أي بديل. باختصار، لقد أنجز نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي اتفاقًا مع الصندوق، من دون أن يتمكّن من فرضه على اللوبي المصرفي النيابي والنخبة السياسيّة، تمامًا كما أنجز رئيس الحكومة السابق حسّان دياب خطّةً لم يتمكن من فرضها على هؤلاء.
القشّة التي قصمت ظهر البعير، كانت اجتماع بعثة الصندوق يوم أول أمس الأربعاء مع رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان، ورئيس لجنة الإدارة والعدل جورج عدوان. هناك، أشهر النائبان أمام البعثة العناوين والشعارات التي من شأنها نسف الاتفاق والانقلاب عليه، في استعادة للأدبيّات التي تم استعمالها للإطاحة بخطّة لازارد. اليوم، يلعب عدوان وكنعان دور البطولة في إسقاط هذا الاتفاق، بعدما أعطى كنعان هذا الدور للجنة تقصّي الحقائق النيابيّة عام 2022. لكن في الحالتين، المستفيد واحد: حلقة ضيّقة من أصحاب النفوذ في النظامين المصرفي والسياسي، من الذين لا يملكون مصلحة في إصلاحات الصندوق.
رأس الحربة المصرفيّة في المجلس: عدوان وكنعان
بعد لقائهما بعثة صندوق النقد الدولي، أصرّ النائبان عدوان وكنعان على التباهي بفعلتهما، وبدورهما البطولي في “مواجهة” بعثة الصندوق. المؤتمر الصحافي الذي تلا اللقاء، حفل بالشعارات والأهازيج حول قدسيّة الودائع وحقوق المودعين، في محاولة للقول بأنّ إسقاط التفاهم مع الصندوق يأتي اليوم لمصلحة المودع. هذا تمامًا ما قيل عام 2020، قبل أن تنخفض القيمة التي يمكن ضمانها من كل وديعة من 500 ألف دولار إلى 100 ألف دولار، في ثلاث سنوات ونصف من الاستنزاف العبثي من الاحتياطات.
بعيدًا عن الشعارات حول قدسية الودائع، والتي وصفها البنك الدولي حرفيًا ذات يوم بالفارغة والانتهازيّة والجوفاء، يمكن للمرء أن يجد عبارتين تلخّصان ما يريده كنعان وعدوان: “الدولة مسؤولة” كما يقول كنعان، والحل يكون “بإعادة الديون وتحمّل الخسائر”، كما يقول عدوان. الاختلاف الوحيد مع صندوق النقد، هو حول مسؤوليّة الدولة. وحين نقول مسؤوليّة الدولة، فالحديث هنا هو عن تحويل الودائع من إلتزامات على القطاع المصرفي إلى ديون عامّة، تمامًا كما طلبت جمعيّة المصارف منذ العام 2020، وتمامًا كما تطرح مقاربات الغالبيّة الساحقة من الكتل النيابيّة اليوم. وهذا ما يرفضه صندوق النقد.
تحويل الودائع إلى ديون عامّة، تقتضي خلق صندوق لاستثمار المرافق العامّة، لربط الديون الجديدة بالصندوق. الصندوق الائتماني كما يناديه جبران باسيل، أو مؤسسة إدارة أصول الدولة كما تناديه القوّات اللبنانيّة، أو هيئة الإدارة والإشراف على الأصول العامّة كما تناديه حركة أمل، لا فرق. فالإشكاليّة بالنسبة لهؤلاء لم تعد حول مبدأ إخضاع المرافق العامّة لصفقة التحاصص الكبرى، بل باتت حول كيفيّة إدارة الصندوق والهيمنة عليه. أمّا عن مسألة المودعين، فيدرك الجميع أنّ عقودًا طويلة ستمر قبل أن يسدد الصندوق ولو جزءًا يسيرًا من الودائع. بسيطة، المهم أن الإلتزامات قد رُفعت من عن كاهل المصارف، وعوّمنا القطاع على حساب ملاءة الدولة واستدامة الدين العام، وفتحنا للمنظومة أبوابًا لا تنتهي من التحاصص في عمليّة خصخصة وتلزيم استثمار الأصول العامّة.
لن يكون هناك مكان لهذه الألاعيب والبهلوانيّات، إذا أراد لبنان دخول برنامج إصلاح جدّي مع صندوق النقد. وهذا ما سمعه جيدًا عدوان وكنعان يوم أمس. بالنسبة لصندوق النقد، معيار إعادة هيكلة القطاع المصرفي واضح جدًا: شطب رساميل المصرفيين في المرحلة الأولى، والحد من أي استعمال للمال العام لتعويم المصارف، بل ومنع تحويل الودائع إلى ديون سياديّة لن يتم تسديدها يومًا. لكن في جميع الحالات، كانت بعثة الصندوق تتحدّث بلغة المال والاقتصاد، وكان كنعان وعدوان يتحدّثان يوم أمس بلغة الزجل والأهازيج (أو “الشعارات الجوفاء” كما سمّاها تقرير البنك الدولي سابقًا).
في خلاصة الاجتماع، كان الجميع يدرك أنّ اتفاق صندوق النقد قد وصل إلى حائط مسدود. لا يمكن تمرير القوانين الإصلاحيّة إذا كانت عقليّة اللجان النيابية تُدار بالمستوى الذي يتحدّث به كنعان وعدوان. ما قيل يوم أمس، لا يختلف كثيرًا عن ما قيل في المجلس النيابي قبل ثلاث سنوات، أيّام لجنة تقصّي الحقائق. لكن المفاجئ هو أنّ يصر المجلس النيابي على هذا النوع من المناورات، بعد أن تبيّنت عبثيّة هذه الشعارات، وكلفتها على الاقتصاد المحلّي والمجتمع.
“صندوق استرداد الودائع” مرفوض من قبل الصندوق
في آخر صيغ مسودّة مشروع قانون إعادة التوازن إلى القطاع المالي، أقحم رئيس الحكومة نجيب ميقاتي فكرة “صندوق استرداد الودائع”، لتقريب خطته من مطالب جمعيّة المصارف واللوبي الذي يدور في فلكها. الفكرة لم تذهب إلى حد رهن أصول الدولة، كما يطالب نوّاب أمل والقوات والتيّار، لكنها وعدت بإمكانيّة تحميل الدولة نسبة من الخسائر في حال تحقق نسبة معيّنة من الفائض في الميزانيّة العامّة.
لقاءات بعثة صندوق النقد خلال اليومين الماضيين، أظهرت أن صندوق النقد مازال متمسّكًا برفضه لهذه الفكرة، فيما يبدو أنّ وفد التفاوض اللبناني مازال يحاول حتّى هذه اللحظة تليين موقف البعثة اتجاه هذه المقاربة. وبذلك، بات من الواضح أنّ آليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، المطروحة حاليًا من جانب الحكومة، مازالت غير مطابقة لشروط التفاهم المبدئي المعقود بين لبنان وصندوق النقد، وهو ما يعيد الأمور مجددًا إلى نقطة الصفر. أمّا مشروع قانون الكابيتال كونترول، المطروح حاليًا للتصويت في المجلس النيابي، فما زال بعيدًا أيضًا عن متطلّبات الصندوق، بعد جميع التعديلات التي طرأت عليه داخل المجلس.
في خلاصة الأمر، لم تنل جولة بعثة صندوق النقد الدولي الراهنة الاهتمام السياسي والشعبي الذي تستحقه، بالنظر إلى الكلفة الباهظة التي سيتحمّلها لبنان خلال السنوات المقبلة، إذا ما أطاحت المنظومة السياسيّة بالاتفاق المعقود مع الصندوق. بصورة أوضح، وكما تحمّل لبنان خلال السنوات الثلاثة الماضية كلفة الانهيار المتفلّت من أي خطّة إصلاحيّة شاملة، ستتجه البلاد إلى عقد ضائع من الفوضى النقديّة والماليّة، إذا ما أطاح المجلس النيابي بآخر ما يمكن الرهان عليه لإدخال البلاد مسار التعافي الاقتصادي. قد يرى البعض أنّ الخطّة المتفق عليها مع الصندوق متواضعة مقارنة مع ما هو مطلوب، لكن البديل عن هذه الخطّة هو ما نعيشه منذ ثلاث سنوات.