حاجات المجتمع تغيّرت… وموازنة 2025 لم تتغيّر: سلام يتبنّى مشروع «اللاواقع»

قرّر مجلس الوزراء في جلسته الأولى بعد نيل الثقة، إصدار قانون موازنة 2025 بمرسوم. بدا واضحاً من مسار هذا الإصدار والنقاشات التي سبقته، أن حكومة نواف سلام تبنّت هذه الموازنة لاعتبارات متناقضة مع مضمون الدستور ومنطق الموازنة، إذ قال سلام إن الحاجات تغيّرت، بمعنى أن الموازنة بعيدة عن الواقع، لكنه اعتبر أن إقرار الموازنة بمرسوم هو أفضل من الإنفاق على القاعدة الاثني عشرية ومن سلف الخزينة، مبرّراً موقفه بأنه لا يريد الوقوع في «الترقيع»، إذ بإصدار موازنة 2025 بمرسوم يكون سلام قد هرب من الترقيع بـ«الترقيع».

بالشكل، إصدار الموازنة بمرسوم يتماهى مع المادة 86 من الدستور التي تمنح الحكومة سلطة استعمال هذا الحقّ إذا لم يبتّ مجلس النواب في مشروع الموازنة قبل انتهاء العقد المعيّن لدرسه، وإذا أُرسلت الموازنة إلى مجلس الوزراء قبل 15 يوماً من بداية هذا العقد. لكن في المضمون، أحيلت الموازنة إلى مجلس النواب في 4/10/2024، أي قبل أيام من بداية العدوان الإسرائيلي على لبنان.

بعد 27 أيلول ليس كما قبله. فما تعرّض له لبنان من عدوان إسرائيلي مدمّر على مدى 66 يوماً، كان يُفترض أن يكون مبرّراً كافياً لاستعادة الموازنة وإعادة درسها تماشياً مع الوضع الناشئ. والمسألة هنا لا تتعلق بالسياسة بمقدار ما تعبّر الموازنة عن خطّة عمل الحكومة وتعاملها مع القضايا الفعلية في المجتمع. فمن الواضح، أن صدور الموازنة بمرسوم، هو أقرب إلى محاولة بائسة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء؛ أي إنكار نتائج العدوان بما تفرضه على الحكومة من استعداد وتخطيط، بالتوازي مع فتح الباب أمام مشروع يطمح لتحديد معايير جديدة للعمل السياسي.

ثمّة الكثير من النقاش الدستوري والموضوعي بشأن إقرار الموازنة بهذه الطريقة. وهو نقاش يمكن أن يبدأ من حيث انتهى إليه العدو الإسرائيلي أثناء حربه المتواصلة منذ أكثر من سنة ونصف سنة. حكومة العدو أرسلت ثلاثة تعديلات على موازنة 2024 أثناء الحرب.

كل تعديل كان مبرّراً بموجبات موضوعية منها سيناريوهات تسارع وتيرة القتال أو تباطئها، وبالتالي كانت الأكلاف تتغيّر باستمرار وحاجات المجتمع تتغيّر أيضاً، ما يدفع الحكومة وسائر مؤسّسات العدو الرسمية إلى التكيّف معها. وهذا الأمر لا يُحصر في الإنفاق العسكري، بل يشكّل الإنفاق المدني أيضاً وخطط المستقبل. تخيّلوا أنه في كانون الأول 2024، صوّت الكنيست الإسرائيلي على التعديل الثالث على الموازنة لرفع سقف العجز وتوسيع الإنفاق. كل ذلك حصل وسط استمرار الحرب.

في لبنان الحسابات مختلفة. فالقوّة القاهرة، أي الحرب بكل نتائجها، والتي تفرض على الحكومة الحالية وعلى الحكومة السابقة أيضاً، استرداد موازنة 2025 لـ«نفضها»، فرضت العكس تماماً، أي إصدارها كما هي بمرسوم. في المبرّرات التي ساقها الرئيس سلام، أنه لا يريد الإنفاق على القاعدة الاثني عشرية، وقال ما حرفيته: «اعتبرنا أن الاستمرار في الصرف على القاعدة الاثني عشرية، يلزم المالية العامة بسقف موازنة عام 2024، بينما في الواقع الحاجات تغيّرت».

بدا من هذه العبارة كأنّ القاضي المشهود له بمعرفته القانونية، يعترف بأن الإنفاق على القاعدة الاثني عشرية يستمر طيلة أيام السنة! في الواقع، هذه القاعدة هي مهلة لمدّة شهر من 12 شهراً لفتح المجال أمام مجلس النواب لإقرار الموازنة. في الولايات المتحدة الأميركية تتوقف كل أعمال الجباية، ويُحظر الإنفاق إلا ضمن استثناءات محدّدة ومعدّدة حتى إقرار الموازنة، أي إن المهلة لتحفيز إقرار الموازنة بالتوازي مع عدم الانجرار وراء الخطابات السياسية في مجلس النواب.

وفي السياق نفسه، سبق أن عقد الرئيس سلام الكثير من الاجتماعات لمناقشة وجهات نظر مختلفة تتعلق بإقرار الموازنة بمرسوم أو استردادها. في أحد الاجتماعات سأل رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان عن الفترة التي سيستغرقها إقرار الموازنة في مجلس النواب بعد استردادها وتعديل أرقامها وتوجهاتها، فأجابه: 20 يوماً على الأكثر.

الرئيس سلام لم يتخذ قرار إقرارها بمرسوم من العدم، بل تبنّى كل ما أوصل إلى هذه الموازنة بما فيها الطبخة التي كان متفقاً عليها بين الرئيس نجيب ميقاتي والرئيس نبيه برّي لإقرارها بمرسوم. بحسب المطّلعين، كان هذا هو الهدف من إرسالها في مطلع أيلول، وهو ما نفّذه وزير المال يوسف الخليل حرفياً. وكان الاعتبار أن إقرار الموازنة يمرّ سريعاً أثناء «جبهة الإسناد».

تبنّي الموازنة من سلام بعد العدوان الإسرئيلي، يحمل في طياته تخلّياً ضمنياً عن رغبة الحكومة في التعامل مع هذا الأمر وإنكاره. أما ما نوقش لجهة أنه يمكن إرسال مشاريع قوانين إلى مجلس النواب لتعديل الموازنة لاحقاً، فهو غير منطقي؛ برأي كنعان «ما زلنا في الشهر الثالث من السنة، وبالتالي لا توجد مشكلة كبيرة في استرداد الموازنة ثم تعديلها وإقرارها خلال فترة قصيرة نسبياً».

ثمّة تناقض فعلي في ما فعله سلام وما يقوله. هو يتحدّث عن تغيّر في الحاجات الفعلية، لكنه يفاضل بين هذا التغيّر وعدم الوقوع في فخّ الإنفاق على القاعدة الاثني عشرية! غريب.

هل إذا أُقرّت الموازنة كما أُعدّت قبل العدوان الإسرائيلي، تغطّي التغيّر في حاجات المجتمع؟ وهل إذا سُحبت لفترة شهر إضافي لتعديلها، تقيّد إنفاق حكومة سلام؟

في الواقع، الإجابة لدى رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة الذي أنفق لمدّة خمس سنوات من دون موازنة. أنفق 17 ألف مليار ليرة، أو ما عُرف يومها بقضية الـ11 مليار دولار، وفق آخر قانون موازنة صادر عن مجلس النواب. الحفاظ على الشكل الدستوري للموازنة ليس موفّقاً من حكومة تدّعي بأنها جاءت بمهمّة الإصلاح والإنقاذ.

من الآن، ليس لحكومة سلام أن تظهر بمظهر «داعية» الإصلاح وتطبيق القانون، بل عليها أن تثبت أنها تهتمّ بمصير البلد. التعامل مع نتائج العدوان الإسرائيلي ليس أمراً عابراً، بل هو مهمّة صعبة تشبه إلى حدّ كبير المهمة الصعبة الناتجة من إفلاس لبنان وانهيار نقده وتفكّك مؤسسات القطاع العام، وهروب مصارفه من المحاسبة. مهمّتان يفترض التصدّي لهما.

4.9 مليارات دولار
هو حجم الموازنة التي أقرّها أمس مجلس الوزراء بمرسوم، وهي تساوي 22% من الناتج المحلي الإجمالي المتوقّع لعام 2024 بحسب البنك الدولي، وهي موازنة لا عجز فيها، أي إن نفقاتها تساوي إيراداتها، لكن لا يرد فيها أي حساب للدين العام وخدمته، ولا جدول التزامات للدائنين، وكل مشاريع البرامج فيها مؤجّلة لسنوات مقبلة، ولم يُذكر فيها أنه يترتّب على لبنان مبلغ 1.1 مليار دولار للعراق ثمن الفيول أويل… هي موازنة على غرار ما صدر سابقاً من موازنات، فيها تلاعب بالأرقام الفعلية والغائب الأكبر فيها إنفاق الحكومة على إعادة إعمار البنى التحتية والمنازل السكنية، علماً أن حساب الخزينة لدى مصرف لبنان فيه أكثر من مليار دولار قابلة للاستعمال والصرف فوراً.

 

مصدرجريدة الأخبار - محمد وهبة
المادة السابقةجابر: الموازنة بمرسوم لتحاشي دعسة ناقصة قبل بدء التفاوض مع صندوق النقد
المقالة القادمةمجلس الوزراء يقرّ الموازنة: خلافات ترجئ التعيينات