في خِضَم العاصفة التي تهزّ الهَيكل المالي للبلاد، تشتدّ المواجهة بين طرفَي الصراع حول منصب حاكم مصرف لبنان. فمن جهة، يقف دعاة تحميل المصارف الخسائر الهائلة ومحاسبتها على تهريب ما تبقّى من سيولة خارج البلاد بعد العام 2019 وتصفيتها، حتى وإن كان ذلك على حساب المودعين بثمن باهظ. وهم يتناكرون دور القطاع العام في الأزمة، ويرفضون المساس بأصول الدولة رفضاً قاطعاً. ومن جهة أخرى، يتمسّك المدافعون عن المصارف بأمل تحويل الودائع إلى ديون تتحمّلها الحكومة، تُسدِّد منها ما تستطيع عبر أصولها، على أن يُصفّى الباقي لاحقاً مع إعادة هيكلة سندات الـ»يوروبوندز». وبين هذَين الطرحَين المتضادَين، تظلّ البلاد مراوحةً مكانها، تتحوّل إلى جسد منهك ينهش الزمن ما تبقّى من أنفاسه الاقتصادية.
لكنّ الحقيقة المؤلمة تكمن في أنّ أياً من الطرفَين لا يملك القدرة على فرض أجندته على الآخر، حتى لو نجح أحدهما في تمرير مرشحه لتولّي حاكمية مصرف لبنان. فمنطق شطب المصارف لن يحظى بقبول شعبي أو نيابي، كما أنّ الإبقاء على احتكار الدولة لقطاعات أساسية مثل الكهرباء والمياه والاتصالات يُقوِّض قدرة القطاعات الإنتاجية على النهوض.
على الجانب الآخر، فإنّ تحميل الدولة وحدها مسؤولية الأزمة، ومن ثم تقاسم أصولها وشطب الودائع لاحقاً، لن يمرّ أيضاً. كما أنّ نقل الاحتكار العام إلى القطاع الخاص يحمل مخاطر سيطرة أوليغارشية فاسدة على القطاعات الأساسية في البلاد. وسيفضي التناحر بين هذَين الخيارَين، أو الاصطفاف خلف أحدهما، إلى شلل البلاد على حدّ سواء.
لذا، بات من الضروري اختراق هذه المعادلة الجامدة برؤية جديدة، تفتح الباب أمام خيار ثالث لحاكمية مصرف لبنان لا يكون تابعاً لأي من المعسكرَين المتصارعَين، ويمثّل مقاربة وسطية تتجاوز الانقسامات الحادة وفقاً للآتي:
أولاً، الانتقال من فكرة شطب الودائع أو استعادتها بالكامل إلى تحسين نِسَب الاسترداد: يقارب السعر الفعلي للشيكات المصرفية اليوم 20% من قيمتها الإسمية، في حين يطمح المودعون إلى استرداد 100% من أموالهم. وبين هذَين الخيارَين، يبرز حلّ واقعي يتمثّل في رفع نسب الإسترداد إلى مستويات تفوق الـ 20% من خلال سياسات نقدية وإصلاحات مالية متوازنة.
ثانياً، إصلاح القطاع المصرفي: بدلاً من تصفية 90% من المصارف أو الإبقاء على جميعها وتحميل الدولة وحدها كلفة الأزمة، ثمّة حلّ وسطي يسعى إلى الإبقاء على أكبر عدد من المصارف. ويبدأ هذا الحلّ بتحفيز المصارف على إعادة الأموال التي حُوِّلت إلى الخارج بعد العام 2019، واستخدامها لتقديم قروض تمول النمو الاقتصادي، على أن تُخصِّص المصارف المعادة هيكلتها نسبة من أرباحها لسداد جزء من أموال المودعين. وفي المقابل، تُعفى المصارف التي تتجاوب مع هذا الطرح من أي مسؤولية مرتبطة بتركيز أصولها في مصرف لبنان وعدم تنويع المخاطر.
ثالثاً، امتلاك خبرة فنية في إعادة الهيكلة: مع تدنّي القيمة السوقية لسندات الـ»يوروبوندز» اللبنانية، يُصبح التفاوض مع الدائنين أولوية ملحّة. ويتمتّع لبنان حالياً بفائض في الموازنة العامة، ما يمنحه فرصة لوضع الدين العام على مسار مستدام وتعزيز نسب الاسترداد. لذا، من الضروري أن يمتلك الحاكم الجديد خبرة فنية في هذا المجال، تضمَن تنسيقاً فعّالاً بين الحكومة والأسواق المالية لتحقيق أفضل الشروط الممكنة في إعادة هيكلة الدين.
رابعاً، الحفاظ على أصول الدولة مع تعزيز المنافسة: بدلاً من بيع أصول الدولة، يمكن للحكومة تعزيز إيراداتها عبر فتح القطاعات الأساسية للمنافسة، على غرار تعايُش المدارس الخاصة مع المدارس الرسمية، والتلفزيونات الخاصة مع تلفزيون لبنان. ويشمل ذلك السماح للقطاع الخاص بتقديم خدمات الكهرباء، الاتصالات، المياه والطيران إلى جانب المؤسسات العامة، لا بدلاً منها. وتحفّز المنافسة النمو الاقتصادي من خلال توفير خدمات أساسية للصناعة (كهرباء مستقرة)، الزراعة (مياه متوفّرة) التكنولوجيا (اتصالات متطوّرة) والسياحة (طيران بأسعار تنافسية). ويعزّز هذا النمو إيرادات الدولة، على أن تُخصِّص الحكومة جزءاً من هذه الإيرادات لتحسين نسب استرداد الودائع.
خامساً، الانتقال من الجدل العقيم حول نظام الصرف إلى سياسة نقدية مستدامة: فطباعة النقود من دون تغطية، سواء في ظل نظام صرف معوّم أو ثابت، تَحدُث اختلالات وتؤدّي إلى انهيار العملة. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى ترسيخ ضوابط صارمة على السياسة النقدية، كتلك التي أثبتت نجاحها مع وسيم منصوري، التي تستند إلى عدم تسليف الحكومة وترك السوق يُحدِّد كمية النقد المتداول من خلال التزام المصرف المركزي ببيع الليرة وشرائها مقابل الدولار بسعر صرف ثابت وفق حاجة السوق. ويسمح تثبيت هذه السياسة عبر قوانين بمنع تكرار الاستنسابية النقدية والحفاظ على الاستقرار المالي.
وليس الخيار الثالث الوسيط مجرّد حلّ وسط، بل هو شخصية فعلية موجودة تتمتّع بالمواصفات المذكورة وتملك النزاهة المطلوبة والخبرة في مجال إعادة الهيكلة، وينبغي اختيارها للشروع في الإصلاحات الضرورية. ويُعتبر فخامة رئيس الجمهورية رمزاً للوحدة الوطنية وحامل أمانة النهوض أمام الشعب.
في ظلّ الاستقطاب الحاد بين الفريقَين المتصارعَين على حاكمية مصرف لبنان، قد يُعَبِّر اختيار أحدهما عن تحيّز يُعزّز الانقسامات السياسية بدلاً من معالجتها. أمّا من خلال تبنّي الخيار الثالث، فيُظهر الرئيس استقلالية القرار وقدرته على قيادة البلاد بعيداً من الصراعات الداخلية، مع الإلتزام بمصلحة الوطن والشعب. ويعكس هذا النهج مسؤولية القيادة الحقيقية التي تتجاوز الحسابات الضيّقة لصالح رؤية استراتيجية طويلة الأمد، تجمع أفضل ما في الطرفَين وتراعي ضرورة الإصلاح وتُظهر القدرة على تجاوز الخلافات والتوجّه نحو حلول تجمع بين الواقعية والمرونة والإبتكار.
ولعلّ شخصية رئيس الجمهورية جوزاف عون تمتلك ما يكفي من الصرامة لكبح التجاوزات، ومن المرونة لإدارة التوازنات، ومن الجرأة لفتح الأبواب المغلقة أمام خيارات جديدة، من دون أن تنحني لرياح المصالح الضيّقة. فالبلاد، في هذه اللحظة الحرجة، تحتاج إلى ربّان قادر على إعادة توجيه السفينة قبل أن تتحطّم على صخور التعطيل.