مر لبنان في فترات ازدهار طويلة ناتجة طبعا عن ظروف استثنائية داخلية واقليمية أنتجت ازدهارا كبيرا حتى سنة 1975. في تلك الفترة تميز لبنان بقيادات تاريخية في السياسة والمصارف وكافة القطاعات والمؤسسات. وضعت خلالها قوانين كبيرة كقانون النقد والتسليف الذي ميز لبنان ليس فقط اقليميا وانما أيضا دوليا. كان لبنان مضرب مثل للأوضاع المستقرة وللنوعية المرتفعة في معظم الخدمات من التربية والتعليم الى الصحة والطب والاستشفاء الى المصارف والمال والتأمين وغيرها. في ذلك الوقت كانت الدول العربية تعاني من أنظمة ظالمة وفي العديد من الأحيان اعتمدت الاشتراكية والتأميم، فهاجر ألوف الأغنياء والخبرات الى بيروت وأنشأوا المؤسسات التي ميزت اقتصادنا وما تزال.
هذه الفترة الاستثنائية الايجابية طالت لعقود وانتجت اقتصادا تنافسيا ونقدا افتخر به اللبنانيون، وكان الدولار يساوي أقل من 3 ليرات. حصلت حرب الـ 75 وظننا بأكثريتنا أن الحرب لن تطول بالرغم من شراستها وظلمها وخرابها وانه في كل حال سيعود لبنان الى ما كان عليه قبل الـ 75. مرت السنوات والعقود ولم يتعاف الاقتصاد اللبناني، بل تتدهور الأوضاع أكثر فأكثر. هذه الفترة من 75 حتى اليوم هي طويلة دون شك ومؤلمة. فاللبناني لم يعد يعرف اذا كنا سنعود الى فترة ما قبل 75 اقتصاديا أو أقله اذا كانت الأوضاع ستقارب تلك الفترة أم أننا سنواصل غرقنا. هل تتحسن الأوضاع بعض الشيء مما يخفف الألم دون أن يلغيه؟ الاجابة لا علاقة لها بالتفاؤل أو التشاؤم بل بمدى قدرة لبنان اليوم على تحسين النتائج الاقتصادية مما يعيد العافية الى قلوب وعقول وجيوب اللبنانيين؟ ترتبط الاجابة بتوافر العوامل الايجابية التي صنعت اقتصاد لبنان أي هل العوامل نفسها موجودة أم أن هنالك بدائل فاعلة تعطي النتائج نفسها؟
أولا: الوضع الدولي الذي يحترم أوجاعنا الحالية ويطالبنا بالانقاذ بدأ من الأمم المتحدة الى الفاتيكان وبقية الدول العربية والخارجية. المدهش ولأسباب متعددة ان الاستجابة الداخلية عموما ضعيفة ربما لأن القدرة غائبة أو لأن المصالح تقضي باستمرار المساوئ الحالية. الاهتمام الدولي منصب اليوم على أمور ربما أخطر كالوضع الأوكراني والمفاوضات المرتبطة بالنووي الايراني الذي يؤثر على الداخل اللبناني كما بسياسات متنوعة كالنووي الكوري الشمالي والطموحات الوطنية من صينية وغيرها. الوضع الدولي ربما سيبتعد عنا أكثر في الفترات القصيرة القادمة.
ثانيا: الوضع الاقليمي وهنا لم ننجح في ابقاء علاقاتنا مميزة مع الدول العربية. العلاقات قوية ليس فقط بسبب اللغة والثقافة، بل أيضا بسبب المصالح الكبيرة التي تربطنا. هنا لبنان يعاني كثيرا، والظاهر أنه لا قدرة لنا على تحسين العلاقات ليس الى ما كانت عليه قبل الـ 75 بل كما كانت في التسعينات. هذا مقلق ويدعو الى اليقظة والمعالجات الجدية الصامتة ربما تخفف الأوجاع والخسائر. حتما لا يمكن في هذه الظروف أن نعيد لبنان الى موقعه الذي كان قبل 75.
ثالثا: الوضع الداخلي الذي لا يمكن لأحد أن يحسدنا عليه والذي يتميز بكافة أنواع الخلافات ليس فقط السياسية العادية، انما الأساسية أي العقائدية وفي الهوية ووجهات النظر الاقتصادية والاجتماعية وخاصة الثقافية. كان لبنان قبل الـ 75 دولة مؤسسات وقوانين يحترمها اللبناني ويمارس أعماله فيها بكل جدية وانتاج. كان لبنان دولة منتجة وتنافسية ومتميزة بالنوعية وليس بالحجم. وضعنا الداخلي صعب اليوم ونحن كمجتمع غير قادرين حتى على الحوار لأن الخلافات ليست تقنية فقط وانما أكبر بكثير وأي حوار غير مدروس يمكن أن يسيء الى الوضع الداخلي.
في ظل هذه الوقائع وإن لم تتوافر بدائل، لا يمكننا الأمل واقعيا بالعودة الى فترات ما قبل الـ 75 لأن الأوضاع الدولية والاقليمية كما الداخلية تغيرت كثيرا. ما هي البدائل الممكنة وان لن تعيدنا الى تلك الفترة بل يمكن أن تحسن أوضاعنا الحالية وتخفف الخسائر وتعيد لبنان الى مسيرة النمو؟ لا بد من التركيز على كل ما يرفع الانتاجية الداخلية والتنافسية القطاعية، فلا بديل عن هاذين العاملين الصعبين اذا أردنا فعلا انقاذ لبنان. رفع الانتاجية كما التنافسية في القطاعين العام والخاص أساسي في كل الشركات والمؤسسات والقطاعات. هذا مهم جدا ويتم عبر المثابرة والجدية لأن هذه المرة لن يأتي الانقاذ من الخارج بل من الداخل مع بعض المساعدات الخارجية.
بموضوعية وشفافية نستطيع أن نقول أن الفترات الصعبة الحالية يمكن أن تطول أي أنها ليست آنية كما نعتقد. عندما نبدأ بالتفكير بهذا الاتجاه، يبدأ العمل الشاق والصعب من قبلنا وعندها تتحسن المعنويات لأننا نعرف عندها واقعنا ونتصرف على هذا الأساس. لا شك أن الانتخابات النيابية والرئاسية المقبلة هي محطات أساسية ضمن الطريق الطويل الذي يوصلنا في النهاية الى شاطئ الأمان. الذي ينتظرنا هو ما انتظر وينتظر دول عدة وليس أكثر. علينا أن نعود الى «أدام سميث» وما كتبه في سنة 1776 بأنه «ليس هنالك غذاء مجاني» بل عمل شاق للنهوض وهذا ما نواجهه اليوم.