بخلاف جميع الأنباء المتداولة، لم يتخطَّ لبنان بعد احتمال إدراجه على القائمة الرماديّة لمجموعة العمل المالي، التي تشمل الدول ذات المخاطر المرتفعة على مستوى أنشطة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. خلال الشهر الحالي، من المفترض أن تبت المجموعة بمصير تصنيف لبنان، بينما يراهن الحاكم بالإنابة وسيم منصوري على إمكانيّة إقناعها بتمديد المهلة الممنوحة للبنان، لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة منه. أمّا أبرز ما تخشاه المجموعة، فما زال سيطرة اقتصاد “النقد الورقي“، أو “الكاش”، على التداولات الماليّة في السوق اللبناني، وهو ما يمثّل بيئة خصبة لكافّة أشكال الأنشطة غير المشروعة.
من المعلوم أنّ مصرف لبنان يراهن منذ حزيران الماضي على التعميم 165، لاستيعاب التداولات الماليّة داخل إطار النظام المصرفي الشرعي. إذ سمح هذا التعميم بإنشاء مقاصّة منفصلة داخل مصرف لبنان للتداولات بالدولار والليرة “الفريش”، وهو ما يسمح للتجّار بتداول السيولة التي لا تخضع للقيود على السحب والتحويل. وبهذا الشكل، حاول مصرف لبنان تخطّي أزمة امتناع التجّار عن التعامل بالسيولة المصرفيّة، بعد حصول الأزمة المصرفيّة التي حوّلت الودائع إلى سيولة مقيّدة لا يمكن استعمالها للاستيراد أو السحب النقدي.
ومع ذلك، تشير أرقام مقاصّة مصرف لبنان إلى أنّ النتائج التي حققها هذا التعميم، على مستوى مكافحة اقتصاد النقد الورقي، مازالت خجولة للغاية. وهذا ما يطرح السؤال عن البدائل المتاحة أمام مصرف لبنان، في ظل انعدام الثقة بأي حلول تمرّ عبر النظام المالي المأزوم.
أرقام مقاصّة “الفريش” خجولة للغاية
وفقًا للأرقام التي أعلن عنها مصرف لبنان مؤخّرًا، بلغ حجم تداولات الشيكات بالدولار “الفريش” خلال الربع الأوّل من السنة الحاليّة نحو 2,965 شيكًا، بقيمة إجماليّة تقارب الـ 36.16 مليون دولار. أما بالنسبة إلى الشيكات بالليرة “الفريش”، فقارب حجم التداولات الـ 1,352 شيكًا، بقيمة تناهز الـ 2,125 مليار ليرة لبنانيّة، أي نحو 23.74 مليون دولار. وبهذا المعنى، يمكن القول أن عدد الشيكات الفريش المتداولة الإجمالي بجميع العملات، خلال الربع الأوّل من السنة، بلغ حدود الـ 4,317 شيكًا، وبقيمة إجماليّة تقارب الـ 59.9 مليون دولار أميركي.
بطبيعة الحال، من المهم الإشارة إلى حجم تداولات الشيكات “الفريش” شهد تطورًا ملحوظًا خلال الأشهر الماضية. فعلى سبيل المثال، ارتفع عدد الشيكات “الفريش” المتداولة خلال شهر آذار إلى 1,690 شيكًا، مقارنة بـ 1,382 شيك خلال الشهر السابق، وهو ما يمثّل زيادة بنسبة 22% بين الفترتين.
وبذلك، يمكن القول أن هناك شرائح من التجّار الذين يقبلون أكثر فأكثر على تداول هذا النوع من الشيكات، بعد التثبّت من قدرتهم على سحب المبالغ التي يتم تحصيلها من هذه المقاصّة. ولهذا السبب بالتحديد، تجاوز عدد الشيكات “الفريش” المتداولة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام، الـ 1.8 أضعاف مثيله خلال النصف الثاني من العام الماضي.
ورغم كل هذه التطوّرات الإيجابيّة، من الواضح أن حجم تداولات الشيكات “الفريش” مازال خجولًا للغاية، مقارنة بحجم التداولات الماليّة في السوق المحلّي. فقيمة هذه التداولات، لا تتجاوز الـ 1.2% من حجم الناتج المحلّي الإجمالي، ما يمثّل نسبة زهيدة للغاية مقارنة بتطلّعات وآمال مصرف لبنان.
وفي جميع الحالات، من الضروري التنويه هنا إلى أنّ حجم الاقتصاد النقدي في لبنان، كما يقدّره البنك الدولي، يتجاوز الـ 9.9 مليار دولار أميركي، أي نحو 46% من حجم الاقتصاد اللبناني. وهذا الرقم، يمثّل حجم التداولات التي يسعى مصرف لبنان إلى استيعابها داخل النظام المالي الشرعي، من خلال إجراءات من قبيل التعميم 165.
أمور خارج سيطرة مصرف لبنان
الخطوات الإصلاحيّة التي تطلبها مجموعة العمل المالي، لا تقتصر على الإجراءات الواقعة ضمن صلاحيّات مصرف لبنان. بل على العكس تمامًا، يندرج عدد كبير من هذه الإصلاحات ضمن نطاق صلاحيّات الحكومة، أو الإدارات العامّة الأخرى، وخصوصًا حين يتعلّق الأمر بملاحقة ومراقبة التداولات الماليّة التي تجري خارج النظام المالي.
فعلى سبيل المثال، قدّمت مجموعة العمل المالي مجموعة من التوصيات المتعلّقة بعمل السلطات الضريبيّة والإدارة الجمركيّة، لرصد الحركة التجاريّة التي يتم استعمالها لإخفاء عمليّات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. كما طلبت مجموعة العمل المالي تشديد الرقابة على تداولات المعادن الثمينة، التي تجري عبر الحدود، والتي يتم استعمالها كغطاء للأنشطة غير المشروعة. وعلى النحو نفسه، ارتبطت مجموعة من التوصيات بالتنسيق العابر للحدود، الذي يسمح بحجز السريع على الأصول والموجودات المشتبه بها من قبل المحاكم الأجنبيّة. كما صوّبت بعض هواجس المجموعة على آليّات عمل السلطات القضائيّة، وخصوصًا على مستوى التحقيق في الأنشطة الماليّة غير المشروعة.
بهذا المعنى، لن يكون بإمكان لبنان الامتثال لطلبات مجموعة العمل المالي بمجرّد القيام ببعض الخطوات المطلوبة على مستوى القطاع المالي، وإن تمكّنت تعاميم مصرف لبنان من استيعاب جزء صغير من عمليّات السوق. أمّا المشكلة الأهم هنا، فهي الاهتراء والتحلّل الذي ضرب إدارات الدولة الرسميّة خلال الأعوام الماضية، وهو ما يحول دون قيامها بدور أكثر فعاليّة على مستوى مكافحة تبييض الأموال، وخصوصًا من جانب الإدارة الضريبيّة. أمّا استمرار الأزمة المصرفيّة على حالها، والمماطلة في إعادة هيكة القطاع المصرفي، فسيساهمان في تعزيز سطوة اقتصاد النقد الورقي، في ظل انعدام الثقة بالنظام المالي المأزوم.