نتيجة جولة بعثة صندوق النقد في العاصمة بيروت، يمكن اختصارها في جملة واحدة وردت في البيان الختامي للزيارة: “لبنان على مفترق طرق خطير.. ومن دون الإصلاحات السريعة، سيغرق البلد في أزمة لن تنتهي أبدًا”. أمّا الأخطر هنا، فهو “العواقب التي لا رجعة فيها”، أي التي لا يمكن تعويضها لاحقًا، والتي ستنتج عن “بقاء الوضع على ما هو عليه”. إنّه “المنعطف الصعب”، حسب تحذير الصندوق، وعلى لبنان الاختيار بين طريق التعافي وتنفيذ شروط الحل، أو المضي نحو صورة قاتمة جدًا، وصفها بدقّة البيان.
حين ترد عبارات خطيرة من هذا النوع، في بيان لمؤسسة دوليّة تقيس عبارتها بميزان الذهب، يصبح من الأكيد أنّ هناك ما يدعو اللبنانيين للتفكّر في نوعيّة الجحيم الذي يسيرون إليه، ونوعيّة المصالح التي تدفعهم باتجاه هذا الجحيم. وحين يتحدّث الصندوق عن “الإصلاحات السريعة”، فهو يشير إلى خطوات واضحة، ومحددة بدقّة متناهية، في الاتفاق على مستوى الموظفين المعقود بين لبنان والصندوق منذ نحو سنة، من دون أن يتم تنفيذها. بصورة أوضح: لم يكن أحد في لبنان بحاجة إلى اختراع البارود لإخراج البلاد من محنتها، طالما أنّ المطلوب بديهي ومعروف، لكنّ ما جرى كان عرقلة متعمّدة لمسار التعافي المالي.
توصيف التباطؤ المقصود في تنفيذ هذه الخطوات، وتحديد مصادره ونتائجه، كانا محور المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس بعثة الصندوق إرنستو ريجو في فندق الفينيسيا بعد ظهر يوم أمس الخميس، في آخر أيّام جولة البعثة. مع الإشارة إلى أنّ الزيارة جاءت ضمن إطار “مشاورات البعثة الرابعة”، التي يقيّم من خلالها الصندوق دوريًا الأوضاع الماليّة والنقديّة للبلدان الأعضاء فيه. لكنّ في حالة لبنان، كانت الجولة مناسبة لتقييم تقدّم اللبنانيين في تنفيذ الخطوات المتفق عليها أساسًا في التفاهم على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي منذ سنة، من دون أن تُنفّذ (راجع المدن).
مضبطة اتهام ثلاثيّة: بحق البرلمان والحكومة والمصرف المركزي
ما قدّمه صندوق النقد في ختام جولته، كان أشبه بمضبطة اتهام بحق ثلاثة أطراف، البرلمان والحكومة والمصرف المركزي، وهم المسؤولون بالتكافل والتضامن عن تنفيذ جميع الإصلاحات التي جرت عرقلتها في الفترة الماضية. مع الإشارة إلى أن البيان –كما سنلاحظ بعد قليل- لم يضع أي قفّازات، عند التصويب على دور هذه الأطراف في العرقلة.
فرغم “خطورة الوضع، الذي يستدعي الخطوات السريعة والحاسمة، لم يحصل سوى تقدّم محدود في تنفيذ رزمة الإصلاحات الاقتصاديّة الشاملة، التي نصّ عليها الاتفاق على مستوى الموظفين”، كما أشار البيان الختامي لبعثة الصندوق. وهذه المراوحة، يتابع البيان، تؤذي وبشكل غير متناسب الفقراء والطبقة الوسطى، وتهدد آفاق الاقتصاد اللبناني على المدى الطويل. أمّا المسؤوليّة، ، فهي على كل من “الحكومة والبرلمان والمصرف المركزي، الذين يفترض أن يبادروا معًا، بسرعة وحسم، إلى مقاربة مكامن الضعف المؤسساتيّة والبنيويّة لإعادة الاستقرار للاقتصاد اللبناني، وفتح الباب أمام التعافي القوي والمستدام”.
هذه النبرة القاسية، تلاها تعداد لبعض نتائج هذه المراوحة والتقاعس عن القيام بالإصلاحات، وفي طليعتها خسارة الاقتصاد اللبناني لـ40% من حجمه منذ بدء الأزمة. وفي الوقت الراهن، يعاني الاقتصاد اللبناني من تضخّم “ثلاثي الخانات” (أي فوق الـ100%)، بفعل تدهور سعر صرف الليرة والزيادات الكبيرة في الكتلة النقديّة، وتعاميم مصرف لبنان المعقّدة التي تفاقم من أزمات تعدّد اسعار الصرف وتشجّع عمليّات المضاربة على العملة المحليّة. وبدا من الواضح أن صندوق النقد تعمّد هذه المرّة الإشارة بشكل صريح وقاسٍ لتحفّظاته على تعاميم حاكم المصرف المركزي وأدائه، خصوصًا أنه بلغ حد اتهامه بالتسبب بازدهار المضاربات، ما يعاكس الوظيفة البديهيّة لأي حاكم مصرف مركزي.
ثم يشير صندوق النقد إلى التدهور في وضعيّة الميزانيّة العامّة، وما نتج عن ذلك من تقليص لحجم الإنفاق العام إلى أدنى المستويات. ومع ذلك، كما تشير بعثة الصندوق، تستمر الحكومة بالاعتماد على المصرف المركزي وبعض المساعدات الخارجيّة لتأمين التمويل، ودعم تغطية العجز الذي يقارب حجمه 5% من حجم الميزانيّة.
كما يعود الصندوق للتصويب على مسألة زيادة العجز في الحساب التجاري، الذي قارب حجمه الـ25% من حجم الناتج المحلّي خلال العام 2022. وهذه التطوّرات، بالإضافة إلى السياسات النقديّة المعتمدة من مصرف لبنان، أدت إلى استنزاف احتياطات المصرف المركزي وانخفاضها إلى نحو 10 مليار دولار في نهاية العام 2022، مقارنة بـ36 مليار دولار قبل حصول الأزمة. وهنا، من خلال هذا التشخيص، أشار الصندوق –مرّة أخرى- إلى امتعاضه من السياسات المعتمدة حاليًّا من قبل مصرف لبنان، وخصوصًا تلك التي تتصل بضخ الدولار والتعامل مع تخبّط سوق القطع.
الصورة القاتمة: عواقب لا رجعة فيها!
استخدمت بعثة الصندوق عبارات “مفترق الطرق الخطير” و”المنعطف الخطر” لتوصيف الوضع الراهن. فما يحصل الآن ليس سوى استمرار لارتفاع معدلات الفقر، وتدهور إضافي في الإمكانات الاقتصاديّة المحليّة. لكن الأخطر، هو ما سينتج في حال بقاء الوضع على ما هو عليه، لجهة التقويض المتنامي للثقة بمؤسسات الدولة، ما سيؤدّي إلى “عواقب لا رجعة فيها على البلاد بكاملها، وخصوصًا الفقراء والطبقات المتوسّطة”. كما ستؤدّي حالة عدم اليقين القاسية إلى المزيد من الضعف في حسابات لبنان الخارجيّة (ميزان المدفوعات والميزان التجاري)، وسيستمر مصرف لبنان في “خسارة احتياطاته النادرة” بالعملات الأجنبيّة.
ثم يتابع صندوق النقد في رسم الصورة القاتمة، التي ستنتج عن حالة المراوحة الخطرة: سيستمر انخفاض سعر الصرف، وستتابع معدلات التضخّم ارتفاعها بلا هوادة، مما سيؤدّي إلى تسريع الدولرة النقديّة المرتفعة في الاقتصاد. سيزداد الطابع غير الرسمي للاقتصاد، ما سيقلل من نطاق الضرائب، ويزيد من انخفاض الإنفاق في الميزانيّة، وترتفع مخاطر الأنشطة غير المشروعة في الاقتصاد. ومن دون الاعتراف بالفجوة المالية الكبيرة في القطاع المصرفي ومعالجتها، لن تتمكن البنوك من تقديم ائتمان هادف لدعم الاقتصاد، وسيواصل صغار المودعين تكبد خسائر كبيرة في عمليات السحب من ودائعهم، بينما ستبقى الودائع المتوسطة والكبيرة عالقة إلى أجل غير مسمى. سوف تتسارع الهجرة، ولا سيما العمال المهرة، مما سيقوض آفاق النمو في المستقبل بشكل أكبر.
الطريق البديل للاستقرار والنمو
الطريق البديل للاستقرار والنمو -حسب الصندوق- واضح المعالم، ويمر برزمة معروفة من الإجراءات التي حددها كل من البيان والمؤتمر الصحافي:
– وضع استراتيجيّة ماليّة متوسّطة الأجل، لاستعادة قدرة الدولة على تحمّل الديون وترك مساحة لزيادة الإنفاق الاجتماعي والإنمائي. وهنا، يجب أن تكون الخطوة الأولى إعداد ميزانيّة العام 2023، واعتماد سعر صرف موحّد للسوق لأغراض الجباية الضريبيّة وسداد الرسوم الجمركيّة. كما سيكون الضبط التدريجي لأوضاع المالية العامة بالغ الأهمية، لاستكمال إعادة هيكلة الدين العام، الذي يفترض أن يتم خفضه –عبر إعادة الهيكلة- إلى مستويات يمكن تحملها على المدى المتوسط.
– الدخول في مسار لإعادة هيكلة “ذات مصداقيّة للقطاع المالي”، بما “يعيد ملاءة القطاع ويدعم مسار التعافي المالي”. وهذا المسار، يفترض أن يحدد ويعالج مسبقًا الخسائر المتراكمة في ميزانيّات المصرف المركزي والمصارف، وأن يحترم تراتبيّة الحقوق والمطالب، مع حماية أصحاب الودائع الصغيرة والحد من أي استعمال للمال العام في هذه العمليّة. وفي النتيجة، يفترض أن تستمر المصارف القادرة على البقاء بعد إعادة رسملتها وهيكلتها، فيما تغادر السوق المصارف غير القادرة على الاستمرار.
– عمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي ستستلزم إدخال المزيد من التعديلات على قانون السريّة المصرفيّة، لتمكين الجهات الرسميّة من الاطلاع على البيانات المصرفيّة. وهنا أكّد رئيس بعثة الصندوق إرنستو ريجو –خلال المؤتمر الصحافي- أن التعديلات على قانون السريّة المصرفيّة لم تكن على مستوى طموحات الصندوق، وخصوصًا من جهة صلاحيات رفع المصرفيّة لغايات إعادة هيكلة القطاع المصرفي.
– توحيد أسعار الصرف، لإعادة المصداقيّة للسياسة النقديّة. ومن شأن هذه الخطوة القضاء على التشوهات الضارة في سوق القطع، والحد على فرص المضاربة بين أسعار الصرف المتعددة، وتقليل الضغوط على احتياطيات البنك المركزي من العملات الأجنبية. وهنا يشير الصندوق إلى أنّه يجب حظر تمويل البنك المركزي للحكومة بشكل صارم، وأن تكون تدخلات الصرف الأجنبي محدودة للغاية، وأن يكون الغرض منها فقط معالجة ظروف السوق المضطربة.
– كما أضاف الصندوق مجموعة من الإصلاحات المطلوبة على مستوى إعادة هيكلة القطاع العام وتحسين الحكومة، ومكافحة الفساد وزيادة الشفافيّة.
في النتيجة، أعاد الصندوق تشديده على إلتزامه بمساعدة لبنان، كما شدد ريجو في المؤتمر الصحافي على أنّ التأخّر في تنفيذ الاتفاق على مستوى الموظفين، سيفرض إعادة النظر في أرقام خطّة التعافي المالي، لكنّه لن يغيّر بالضرورة نوعيّة الشروط التي وضعها الصندوق في هذه الخطّة. إنما ورغم ذلك، ستبقى فعاليّة وجدوى كل هذا الدعم متوقّفة على مدى استعداد الدولة اللبنانيّة لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة منها، والتي ما زال تنفيذ أغلبها معلّقًا حتّى اللحظة.