أطاحت تطوّرات الأيّام الماضية بفكرة تمرير تشريع خاص لاستقراض الحكومة بالعملات الأجنبيّة، بعدما تنصّل رئيس الحكومة من الوعود التي قدّمها لنوّاب الحاكم قبل انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان، بخصوص تحضير مرسوم مشروع قانون بهذا الخصوص. في المقابل، ما زال رئيس المجلس النيابي نبيه برّي يتسلّح برفضه القاطع لتسلّم مشروع القانون من داخل المجلس، ولو من خلال مجموعة من النوّاب المحسوبين على رئيس الحكومة، على اعتبار أن الحكومة هي من يفترض أن يتحمّل مسؤوليّة قرار حسّاس من هذا النوع. مع الإشارة إلى أنّ حسابات برّي ترتبط أيضًا بصعوبة تأمين نصاب جلسة تشريعيّة قادرة على تمرير قانون من هذا النوع، بعدما رفع رئيس كتلة لبنان القوي جبران باسيل من سقف الشروط المرتبطة بحضوره الجلسة.
في خلاصة الأمر، بات الجميع أسير مواقفه الحاسمة في هذا الموضوع الحسّاس، ولا يبدو أنّ أيًا من الأطراف المعنيّة بهذا السجال سيتمكّن من النزول عن الشجرة التي صعد عليها. أمّا نوّاب الحاكم، وتحديدًا نائب الحاكم الأوّل، فما زال متمسّكًا حتّى اللحظة برفضه القاطع للمس بالاحتياطات، إلا بموجب قانون يغطي ذلك، ما يعني أنّ تمويل الدولة بالعملات الأجنبيّة سيبقى متعذرًا بغياب هذا القانون. ثم جاء المؤتمر الصحفي لرئيس القوّات اللبنانيّة سمير جعجع ظهر اليوم، ليزيد من تشنّج المواقف المرتبطة بالملف، خصوصًا أن الشعارات العموميّة والفضفاضة هي ما غلبت على مضمون كلام جعجع.
مشكلة السجالات الشعبويّة
الأكيد حتّى اللحظة، هو أنّ الجميع بات يدور في حلقة مفرغة من الشعارات الشعبويّة، البعيدة عن الحلول المطلوبة فعلًا للأزمة. أوّل الغيث كان مطلب قانون الاستقراض نفسه، الذي أعلنه نوّاب الحاكم، والذي –كما بات واضحًا- جاء من خارج جميع الأصول القانونيّة التي ترعى علاقة المصرف المركزي الماليّة بالدولة اللبنانيّة. وبهذا الشكل، لجأ نوّاب الحاكم إلى طلب تطبيع استنزاف الاحتياطات، وعبر آليّة الاقتراض، بدل مفاوضة الحكومة على المزيد من الانضباط المالي في الميزانيّة العامّة، لوقف العجز، وبيع الدولارات مقابل الليرات النقديّة بحسب آليّة التداول بالعملة الصعبة، التي ستحل مكان منصّة صيرفة.
في مقابل هذا الاتجاه، سار برّي بطلب منصوري، على قاعدة رفع المسؤوليّة عن نائب الحاكم الأوّل “الشيعي”، بحسب الأعراف السياسيّة التي تم تطبيعها في هذا الملف، لكنّه –ولرفع المسؤوليّة عن موقعه أيضًا- رمى كرة صياغة المسودّة الأولى من القانون في مرمى الحكومة ورئيسها. وعلى النحو نفسه، أعاد ميقاتي الكرة إلى ملعب مجلس النوّاب، طالبًا أن تكون المبادرة من جانب مجموعة من النوّاب داخل المجلس، بدل أن تأتي من جانب الحكومة.
بهذا الشكل، دخل النقاش في دائرة الشعارات المرتبطة بمسألة “قدسيّة الاحتياطات”، وما تبقى من “دولارات المودعين”، وآليّات الصرف وتمويل الدولة، بدل أن يتركّز على النقطة الأهم: على أي أساس يطلب نوّاب الحاكم إقراض الدولة، بغياب الموازنة التي يفترض أن تضبط الوضع المالي العام، وأن تحدد حجم العجز –وتاليًا حجم الاقتراض- المتوقّع؟
وإذا كانت الحكومة قادرة على تأمين فائض خلال الفترة المقبلة، بالليرة اللبنانيّة، وهذه مسؤوليّتها ودورها، فلماذا لا يتحمّل مصرف لبنان في المقابل مسؤوليّته في تأمين أداة تداول بالعملة الصعبة، لتمكين الدولة من شراء الدولارات بسعر السوق؟ وبهذا الشكل، يمكن الجمع ما بين أولويّات تمويل الدولة والحفاظ على الاحتياطات، بدل وضع مصلحة المودعين في مواجهة مصالح الدولة والمجتمع ككل.
المشكلة ليست في غياب المعرفة التقنيّة، التي يملكها بالفعل من يتولّى الشأنين النقدي والمالي في مصرف لبنان والحكومة، بل تكمن المشكلة في رغبة الجميع بالتهرّب من المسؤوليّة، والابتعاد عن القرارات القاسية أو الصعبة، التي شأنها أن تُنتج حلولًا على المدى البعيد. وهذا يشمل كل من تورّط في حفلة المزايدات: من نوّاب الحاكم إلى رئيس الحكومة ووزير الماليّة، وصولًا إلى رئيس المجلس النيابي.
وحتّى مضمون المؤتمر الصحفي لرئيس القوّات اللبنانيّة سمير جعجع، الذي جاء من موقع “المعارض” للتركيبة الحاكمة، لم يخرج من دائرة البحث عن الشعارات المُربحة شعبيًّا، بدل تقديم الحلول المطلوبة في هذه المرحلة. أمّا باسيل، فما زال يجلس على “التل” بانتظار جلاء غبار معركة التمويل، ليتمكّن في النهاية من تحصيل ما يمكن تحصيله في السياسة، مقابل تأمين نصاب ما لجلسة نيابيّة او حكوميّة مرتبطة بهذا الملف.
في كل هذا المخاض، لم يسمع أحد تحذير نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، الذي لفت منذ البداية إلى أنّ عقد الاستقراض سيزيد من نسبة الدين العام للناتج المحلّي بنسبة 6%، بينما يبدو من الواضح أن الحكومة اللبنانيّة –وبإيراداتها الحاليّة- لن تتمكن من سداد هذا القرض على المدى المتوسّط، ما سيعني أن نتيجة الفكرة الوحيدة هي تأمين التمويل على حساب المودعين.
التطورّات المرتبقة
في النتيجة، المرتقب خلال الأيام المقبلة هو العودة إلى تمويل تسديد الرواتب في نهاية شهر آب بالليرة اللبنانيّة، بعد إحالة هذه الرواتب من الخزينة العامّة إلى مصرف لبنان بالعملة المحليّة. وهكذا، سيخسر العاملون في القطاع العام الفارق بين سعر صرف المنصّة، الذي تم اعتماده لتحويل الرواتب إلى الدولار الأميركي، لكنّهم سيحتفظون بالزيادات التي تم إقرارها على دفعتين بالليرة اللبنانيّة في السابق. ويؤكّد على هذا الاتجاه، تأكيد مستشار رئيس الحكومة نقولا نحّاس بتوفّر السيولة بالليرة اللبنانيّة بيد الحكومة، ما يعني إمكانيّة سداد الرواتب من دون التأثّر بمسألة تأمين التمويل بالعملات الأجنبيّة.
الإشكاليّة الأخيرة ستبقى النفقات التي لا يمكن سدادها إلا بالدولار الأميركي، مثل بدلات عقود الصيانة والتشغيل وكلفة شراء المحروقات لمؤسسة كهرباء لبنان وأوجيرو وغيرها. وهذه النفقات، يمكن نظريًا تسديدها عبر تحويل الليرات التي تملكها الحكومة في حساب الخزينة لدى المصرف المركزي، إلى العملة الصعبة، إلا أن ذلك غير متاح حاليًا لغياب آليّة التداول التي كانت توفّرها منصّة صيرفة (إلا إذا أراد المصرف بيع الدولارات من الاحتياطات، ما يناقض الهدف المعلن من “حركة” نوّاب الحاكم). وهكذا، ومرّة جديدة، تبقى العقدة الأخيرة والأهم السياسة النقديّة، التي يفترض أن تنتظم بعد إطلاق المنصّة الجديدة، بدل أن يبقى الغموض سيّد الموقف كما هو الحال الآن.