لا تزال الحكومة تمارس سياسة الانكار والاهمال في مواجهة الانهيار الاقتصادي والمالي الذي ضرب البلد منذ خمس سنوات. والنموذج الفاقع في هذا النهج يتمثّل بالطريقة التي تقارب فيها ملف اعادة ضخ الحياة في ماكينة القطاع العام، المعطّلة جزئياً أو كلياً، منذ الانهيار.
تبدو السلطة مصرّة على المضي في النهج التدميري الذي اختبرته في العام 2017 عبر إقرار سلسلة الرتب والرواتب. وهي تتصرّف وكأنها لم تتعلم شيئاً من التجربة المريرة، وتعيد الكرّة، وتسعى الى معالجة أزمة رواتب موظفي القطاع العام بالطريقة العشوائية نفسها.
لا يختلف اثنان على الحاجة الملحّة الى تشغيل مؤسسات ودوائر القطاع العام بشكل طبيعي. ولا يختلف اثنان على ضرورة تحسين رواتب الموظفين، وفي طليعتهم عناصر وضباط القوى العسكرية والامنية. ومن دون هذه الخطوة، لا يمكن توقّع أي تقدّم في اداء المؤسسات الرسمية، بالاضافة الى القلق الدائم في شأن قدرة القوى الامنية على ممارسة مهامها كما يجب في ظل العوائق المادية القائمة، سواء على مستوى الموازنات التشغيلية للمؤسسات العسكرية والامنية، او على مستوى أجور افراد هذه المؤسسات.
ومع ذلك، من غير المقبول ان تتصرف السلطة على اساس انّ رفع الاجور هو مجرد قرار منفرد يتم اتخاذه بشكل مستقل عن المعطيات المحيطة به. واذا كانت حكومة تصريف الاعمال جادّة في موضوع تحسين مستوى عيش موظفي القطاع العام، لتمكينهم من ممارسة مهامهم بشكل طبيعي، ويومياً بدلاً من مرة او مرتين في الاسبوع، عليها ان تقارب هذا الملف وفق خارطة طريق تأخذ في الاعتبار الحقائق والاجراءات التالية:
اولاً – المعيار الذي ينبغي اعتماده في تحديد الاجور لا يرتبط حصراً بغلاء المعيشة، أو بمعدل الاجر الذي يسمح بحياة كريمة فحسب، بل أيضاً بوضع الاقتصاد، وحجم الموازنة.
ثانياً – ان نسبة الانفاق على الرواتب ينبغي ان تتراوح بين 20 و25 في المئة من مجموع الانفاق في الموازنة. وهذا الامر غير متوافر حالياً، حيث تشكل الاجور حوالى 40% من الانفاق.
ثالثاً – على السلطة ان تعرف ان الزيادة في ايراداتها التي حصلت عليها جراء رفع الرسوم، والانتقال من سعر صرف منخفض الى سعر صرف حقيقي في الجمارك وسواها من الرسوم المرتبطة بتسعيرة الليرة على الدولار، لا تكفي للاستنتاج بأنّ الوضع صار مُطمئناً. وما يجري عملياً، انّ ايرادات الخزينة ترتفع جراء الانفاق الاضافي الذي يحصل نتيجة حجم القوى العاملة اللبنانية في الخارج. وهذا يعني في علم الاقتصاد انّ الدولة تستفيد من اقتصاديات الدول التي يعمل فيها اللبنانيون، وليس بفضل نمو الاقتصاد الوطني. وهنا تكمن الثغرة التي تحتاج الى معالجة. اذ انّ اقتصاداً حجمه 20 أو 22 مليار دولار، من أصلها حوالى 17 مليارا للاستيراد، لا يستطيع ان يخدم ويموّل قطاعاً عاماً يوازي حجمه اقتصاداً ينبغي ان تصل قيمته، بالحدّ الأدنى الى 55 مليار دولار، كما كان قبل الانهيار.
رابعاً – اصلاح القطاع العام لا يزال اولوية، سواء من حيث العدد، التوزيع، منع الرشاوى، الانضباط والانتاجية.
في النتيجة، ما تفعله حكومة تصريف الاعمال انها تتجاوز النقاط الاربع السالفة الذكر، وتقفز الى النقطة الأخيرة في المشروع، والمتعلقة بزيادة اجور الموظفين. في حين انّ سلسلة الرتب والرواتب التي يجري الحديث عنها، تخطّط لزيادات متدرجة على فترة 5 سنوات. والسؤال، كيف تسمح الحكومة لنفسها بالتخطيط لزيادة الانفاق خلال السنوات الخمس المقبلة، من دون ان تضع في الموازاة، خطة خمسية توضح زيادة الايرادات المتوقعة خلال الفترة نفسها، انطلاقاً من توقعات نمو الاقتصاد؟ ألا تخشى مثلاً ان ترتفع نسبة الرواتب في حجم الانفاق العام من 40 الى 50%؟ وهل ان تجاوز المعايير المتعارَف عليها عالمياً لحماية الاقتصاديات هو بالنسبة الى الحكومة وجهة نظر، ولا حاجة الى أخذه في الاعتبار؟
المفارقة هنا، انّ الحكومة تدفع الاقتصاد الى مزيد من الانهيار، وتجازف بمعيشة كل اللبنانيين، من دون أن تُنصف موظفي القطاع العام، لأن الزيادات المقترحة، وإن بدت بمثابة انتحار اقتصادي في غياب النمو، الا انها في الواقع مزرية وغير كافية لإنصاف الموظفين. كما انّ معضلة إبقاء الزيادات من خارج سياق الراتب الرسمي، اي عدم شمول تعويضات نهاية الخدمة بالزيادات هو ظلم ما بعده ظلم، في حق الموظف.
من يريد إنصاف موظف القطاع العام، وعودة تشغيل هذا القطاع، وحماية القدرات الشرائية لكل اللبنانيين، عليه ان يبدأ من خطط انماء الاقتصاد وتكبير حجمه. وهذا الامر لا يتم من دون خطة انقاذ تشمل توقيع اتفاق تمويل مع صندوق النقد الدولي للعودة الى الاسواق العالمية. ومن دون ذلك، لا تزال السلطة تبيع الاوهام، وتشتري الوقت، وهي تدرك ان النتائج لاحقاً لن تكون مختلفة عن النتائج التي حصدتها جراء ممارساتها الشاذة قبل الانهيار نهاية العام 2019.