باتت قضية وراثة حاكمية مصرف لبنان أكثر وضوحاً، رغم عدم حسم شيء بانتظار اللحظات الأخيرة من عمر ولاية الحاكم رياض سلامة. فأصبح استلام النائب الأول للحاكم، وسيم منصوري، أقرب إلى الواقع، مع طرح تأمين الغطاء التشريعي لما سيُنفَق خلال مرحلة وجود منصوري في مركز قيادة السياسة النقدية. فعلى الدولة التزامات مالية خلال فترة زمنية مفتوحة في ظل عدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تعيين حاكم للمصرف المركزي. ولا يريد رئيس مجلس النواب نبيه برّي حمل وزر مفاعيل صرف نحو 200 مليون دولار شهرياً، تحت مظلّة استلام شيعيّ مسؤولية السياسة النقدية. فضلاً عن إدارة هذا الشيعي، أي نائب الحاكم الأوّل، عمليات تمويل أخرى، منها ما يأتي مع إقرار موازنة 2023، ومنها ما قد يُستَجَد من سلفات خزينة، وهنا تتّجه الأنظار أوّلاً إلى وزارة الطاقة صاحبة الباع الطويل في طلب السلفات، تحت وطأة التهويل بالعتمة. وللتذكير، حين تُقَرُّ السلفات بالليرة، يُطلَب من مصرف لبنان تحويلها إلى دولار، فيزداد الضغط على ما يملكه من عملة خضراء، وتذهب الأصابع نحو الاحتياطي الإلزامي، ما يستنفر المودعين.
شمّاعة الاستقرار
لثلاثين عاماً حقَّقَ سلامة استقراراً في سعر صرف الليرة، جاءت نتيجته أزمة كارثية. هو الاستقرار نفسه الذي دافعت عنه الطبقة السياسية على مدى 4 سنوات، وكان تمويله من أموال المودعين. وتتكرّر نغمة الاستقرار مع اقتراب الفراغ في كرسي حاكمية المصرف المركزي.
ومع فشل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بتنظيم جلسة لمجلس الوزراء لمناقشة الوضعين المالي والنقدي، ذَهَب ميقاتي إلى التعامل مع الأمر الواقع الذي يمسك برّي بمفاتيحه. والأمر الواقع يعني تأمين أرضية صلبة لاستلام منصوري. وتُرجِمَ ذلك باجتماع بين ميقاتي ونواب الحاكم، يوم أمس، خلص إلى ضرورة “تعاون الجميع للحفاظ على الاستقرار المالي والنقدي النسبي وعدم تعريضه للاهتزاز”، وفق ميقاتي. ومَن لا يلتزم بذلك، فلعنة “المسؤولية الوطنية” ستلاحقه. والتزاماً بتلك المسؤولية، أعلن نواب الحاكم أنهم “سيقومون بواجباتهم الوطنية والوظيفية ضمن الأصول القانونية للحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار، الذي لا يقتضي المسّ به”.
يرفض المودعون حجّة الاستقرار لضمان الهدوء النسبي أمام السلطة السياسية لتمرير استحقاقاتها وتسوياتها. ويتخوَّف المودعون من تأمين الاستقرار المزعوم من أموالهم مرة جديدة بعد رحيل الحاكم، وفي ذلك “استمرار بخطّة الظل التي بدأها الحاكم ويتواصل تنفيذها”، حسب ما تقوله لـ”المدن”، المحامية في رابطة المودعين، زينة جابر.
ويأتي هذا الموقف بفعل “غياب الخطة السليمة للتعامل مع الأزمة بشكل صحيح منذ بدايتها”. ولذلك، يجد المودعون، وعلى لسان جابر، أن ما يُطرَح اليوم من غطاء تشريعي، كان من الأجدى، عوضاً عنه “طرح خطة تؤمِّن إيرادات للدولة تغطي نفقاتها، وتوزِّع المسؤوليات بشكل عادل وشفّاف وتوقِف استمرار الخسارة”.
وفي ظل الواقع الراهن “تتساءل رابطة المودعين عن آلية تأمين الدولة إيرادات تغطّي التزاماتها”. ولا تجد الرابطة أسرع من “اللجوء إلى الاحتياطي الإلزامي، أي لأموال المودعين”. ولا تقتنع الرابطة بسعي الدولة لتحصيل إيرادات من الرسوم والضرائب المقرَّة في الموازنة، لأن تجربة موازنة 2022 أثبتت “زيادة معدّل التهرّب من دفع الرسوم والضرائب، لأن الناس فقدت الثقة بالدولة”. وعليه، يشدد المودعون على رفضهم أوّلاً، المسّ بالاحتياطي، وضمناً رفضهم “طباعة الليرة في حال كان هذا هو الحل الذي قد يلجأ إليه المصرف المركزي لتأمين التزامات الدولة بعد إيجاد التشريعات اللازمة له”.
الاستفادة من عامل الوقت
الحاجة الفعلية للطبقة السياسية هي تمرير الوقت طالما أن الاتفاق على الملف الرئاسي وحاكمية المركزي، لم يحصل بعد. والجميع متّفق على ذلك ويسير به. فميقاتي لا حول له ولا قوّة في تقرير مصير ما بعد سلامة، وجلّ ما كان أمامه هو السعي مع نواب الحاكم لتمرير المرحلة المقبلة وتفادي الاستقالات. أما برّي، فيتّجه نحو تحقيق مراده بالحصول على براءة ذمة من مسؤولية أي تداعيات نقدية ومالية قد تحصل خلال فترة استلام منصوري.
التهدئة الداخلية مدعومة بظروف خارجية، خلصت إليها زيارة المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان. فجولته إلى بيروت انتهت بتأجيل المباحثات مع القوى السياسية، حتى شهر أيلول المقبل، ما يترك أمام ساسة لبنان فرصة مُراوَحة تمتد لنحو شهرين، لا يمكن تجميد جوانبها المالية والنقدية على غرار الجمود السياسي، ولذلك، يستوجب الوضع تسوية تشريعية تغطّي الإنفاق.