لا تزال معضلة إجهاز الدولة على ما تبقّى من احتياطي في مصرف لبنان تصطدم بإيجاد التغطية القانونية لها. فالمشاورات الجارية حول مطلب المجلس المركزي في مصرف لبنان وتحديداً حاكم مصرف لبنان بالوكالة وسيم منصوري والنوّاب الثلاثة بتعديل القوانين تطرح تساؤلات معاكسة لماذا على الدولة الاقتراض من مصرف لبنان؟ ألا تكفي الإيرادات التي تجنيها لتغطية نفقاتها، ثم ألا يمكنها تحصيل العملة الصعبة من تلك الإيرادات؟
تفاوتت المقاربة للموضوع، ولكنّ الجواب الجازم أن الدولة اللبنانية ليست بحاجة للاقتراض لتأمين احتياجاتها. فهي قادرة كما أوضح الخبير الاقتصادي والمالي أنيس بو دياب لـ»نداء الوطن»، «على تأمين الدولار النقدي، إذ صرّح وزير الأشغال منذ أكثر من أسبوع أن مطار رفيق الحريري يدخل سنوياً 250 مليون دولار «فريش»، وشهرياً يدرّ 10 ملايين دولار، وهي عائدات نقدية بالدولار تعود للدولة».
وعلى غرار المطار، لفت الى أنّ «جزءاً من موازنة 2022، أتاح للحكومة أن يحصّل إيرادات بالدولار النقدي من المرفأ، وبذلك تستطيع أن تقتطع في قانون موازنة 2023 جزءاً من عوائدها مثل الرسوم الجمركية بالدولار على سبيل المثال، وبذلك توفّر إيرادات بالدولار، وتوفّر عناء الاقتراض.
فالقانون يمنع المساس بالاحتياطي الإلزامي الذي لا تملكه الدولة ولا المصرف المركزي. إذ إن هذه الأموال تعود حصراً للمصارف وبالتالي الى المودعين. أي أن نسبة 14% من كل وديعة تودع في المصرف المركزي.
وبالنسبة الى عملية إقراض الدولة، فتلك المسألة استناداً الى بو دياب «نصّ عليها قانون النقد والتسليف في المادتين 90 و91 منه، حيث ورد أنه إذا احتاجت الحكومة الى أموال لسدّ عجز الموازنة، تطلب من المصرف المركزي الاقتراض بالعملة الوطنية بما لا يتجاوز نسبة الـ10% من الموازنة لفترة 6 أشهر وبالليرة اللبنانية».
الدولة قادرة على تغطية نفقاتها
من جهته، أوضح الخبير الاقتصادي باتريك مارديني لـ»نداء الوطن» أن «الدولة قادرة على تغطية نفقاتها من العائدات المحقّقة، فهي تجبي ما يكفي من الأموال لتغطية النفقات العامة وتحديداً الرواتب والأجور التي تكلّف 7,1 تريليونات ليرة شهرياً حسب تقديرات وزارة المالية. فمعدّل الجباية استناداً الى موازنة 2023 يبلغ 12 تريليون ليرة وبالتالي الحكومة تمتلك الأموال لتغطية الرواتب والأجور».
حتى أن حاكم المصرف المركزي بالوكالة وسيم منصوري، أعلن أن الحكومة تجبي 20 تريليون ليرة أي بقيمة تفوق التوقّعات وبذلك يمكنها تسديد الرواتب والأجور. وبذلك رأى مارديني أن «الدولة تستخدم الرواتب والأجور حجة لتبرير مطلب الاقتراض من مصرف لبنان. فالدولة ليست بحاجة لتغطية فاتورة الإنترنت. إذ إن تعرفة الاتصالات ارتفعت وباتت تحتسب على «صيرفة» وبذلك من المفترض تغطية كلفتها. كذلك الوضع عليه في قطاع الكهرباء، ارتفعت الفواتير وباتت تحتسب وفق «صيرفة»+20%».
دعم الدواء
أما في ما يتعلّق بقطاع الدواء وضرورة الاقتراض لدعم الأدوية، فاعتبر مارديني أن ما يحصل في موضوع دعم الدواء هو «مهزلة». فسياسة دعم الدواء قطعت الأدوية من الأسواق، ولم يعد أمام المرضى سوى شراء أدوية ذات نوعية أدنى مستوردة من بلاد صناعة الدواء فيها ضعيفة، على غرار ما كان يحصل في المحروقات حيث انقطعت تلك المادة من الأسواق واصطفّت طوابير أمام محطات المحروقات».
وأسوأ ما في الدعم يضيف أن «الدواء اللبناني المدعوم يهرّب الى الخارج فيما المريض اللبناني يفتقده ويبحث عن كيفية شرائه من الخارج. انطلاقاً من ذلك الواقع إن سياسة دعم الدواء تعتبر هدراً ومهزلة ويجب الخروج منها حالاً. والتوظيفات الإلزامية المتبقية في الاحتياطي هي ما تبقّى من أموال المودعين، لذلك لا يجوز اقتراض الدولة من مصرف لبنان والمساس بالتوظيفات الإلزامية». ورفض فكرة أن «تشفط» السلطة السياسية الـ9,5 مليارات دولار المتبقّية في احتياطي مصرف لبنان، متحجّجة بأدوية مرضى السرطان والإنترنت. واصفاً هذا الفعل بالابتزاز للشعب اللبناني للاستحصال على ما تبقّى من أموال المودعين ما يكبّر الأزمة الاقتصادية في البلاد، ويبسط فعل الحكومة، فتعود الحكومة الى عادة الصرف، وهي الخطوة المضرّة جدّاً للوطن.
موازنة متوازنة
وبدوره أكّد خبير المخاطر المصرفية محمد فحيلي لـ»نداء الوطن» حول ضرورة الاقتراض من مصرف لبنان، أنه إذا فكّرت الطبقة السياسية بجدّية لجهة إنتاج موازنة متوازنة للعامين 2023 و2024 فليست مضطرّة للاقتراض. ولكن إذا تعلّق الأمر بالعجز وضرورة إقفاله، فإن الخيارات أمام الدولة محدودة، إذ إن الأسواق المالية أقفلت أبوابها أمام الدولة اللبنانية عندما قرّرت التخلّف عن سداد الدين. وانكمش الاقتصاد من 55 مليار دولار الى 20 مليار دولار. وجزء منه تحوّل الى اقتصاد غير رسمي يعتمد على التبادل بالأوراق النقدية وإخفاء الإيرادات ما يخفّف قدرة الدولة على تحصيل إيرادات من القطاع الخاص.
فكان أمام الدولة إما اللجوء الى طباعة العملات أو الاقتراض من مصرف لبنان. واستخدمت الخيارين. فطباعة العملات تخلق تضخّماً يؤثر على كل الوطن وخصوصاً أصحاب الدخل المحدود إضافة الى ذلك يتأثر بذلك من يتقاضى راتبه بالليرة اللبنانية. الخيار الثاني هو الاقتراض من مصرف لبنان بالعملة الأجنبية إذا توفرت السيولة لدى مصرف لبنان تكون تأثيراته على التضخم أقلّ ولكن».
واعتبر أن «تأمين السيولة لتغطية حاجات الدولة ممكن إذا تم تمكين المصارف وتفعيل العمل بوسائل الدفع (البطاقات) من خلال المصارف والشيكات بالليرة والتحاويل. والتعميم 165 يفتح المجال أمام التبادل بالشيكات الفريش، ما يخفّف التبادل بالأوراق النقدية».